جمهورية ايران الإسلامية
وزارة الثقافة والاعلام بالتعاون مع جامعة الامام الصادق ( ع )
المؤتمر العلمي العالمي في الفترة من 10 ـ11 مارس 2007 طهران
تحت شعار الجهاد العلمي
الوحدة الإسلامية التحديات والحلول
تقديم الأستاذ / عبد المحمود أبّو
الأمين العام لهيئة شئون الأنصار ـ السودان
ـ المقدمة ـ
الدعوة الإسلامية منذ أن انطلقت في مكة المكرمة واجهت تحديات كثيرة من المجتمع الجاهلى تمثلت في الصدود والإنكار والتشكيك والمواجهة ومحاولة الاستئصال ولكن الدعوة كانت تحمل عناصر القوة في داخلها فتمكنت من الصمود في وجه الإبتلاءات وحققت انتصارات تلو انتصارات على النظام الجاهلي فثبتت أقدامها وأبطلت مفعول أدوات الخصم حتى ضاق بها ذرعاً وقرر القضاء عليها فانتقلت إلى المدينة المنورة .
وفي المدينة واجهت الدعوة تحديات بناء النظام الجديد على أسس ومفاهيم غريبة على النظام القبلي الذي كانت تسيطرعليه قبيلتا الأوس والخزرج وحلفاؤهما من اليهود , فكانت التحديات تتمثل في : بناء المجتمع على مفاهيم الدين الجديد وتجاوز الصراع الأوسي الخزرجي , ومواجهة التيار السلولي ـ نسبة إلى عبدالله بن أبي بن سلول ـ والتصدي للمكراليهودي , فضلاً عن الاستعداد للمواجهة المحتملة مع أهل مكة الذين لن يسكتوا على اللطمة التي وجهها لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة وافشال مخططهم الذي اتفقوا عليه في دارالندوة .
وعلى طول المسيرة التارخية تعرضت أمة الإسلام لتحديات كثيرة داخلية وخارجية استطاعت أن تواجهها وتخرج منها منتصرة بالرغم من الخسائر التي تعرضت لها , وأخطر تلك التحديات كان الخلاف الذي فرق الأمة إلى فرق وجماعات جرت بينها حروب حصدت فيها آلاف الأرواح , ثم الإستعمارالخارجي وغير ذلك من التحديات التي لا تزال آثارها تنهش في جسد الأمة الممتلئ بالقروح والأمراض .
إن أمتنا اليوم تمر بمنعطف تاريخي خطير حيث تكالبت عليها الأمم من كل الأرجاء للقضاء عليها وأنهكتها الحروب الداخلية والخلافات الطائفية والمذهبية , وعطلت نهضتها النظم الشمولية والصراعات السياسية , إنها مطالبة بمراجعة مسيرتها وتشخيص أمراضها وتحديد الدواء حتى تنهض من جديد لمواصلة مسيرتها القاصدة بإذن الله . إنني أشارك بهذه الورقة في هذا المؤتمرالهام الذي أعتقد أنه جاء في الوقت المناسب لأن شعوبنا تتطلع لقادة الفكر والرأي أن يقدموا الحلول التي يمكن أن تنتشل الأمة من هذا الواقع المرير , وأن يبينوا الوسائل التي تؤدي إلى وحدة الأمة وورقتي تشتمل على مقدمة وثلاثة محاوروخاتمة , وهي مساهمة متواضعة لاستنهاض الأمة للقيام بواجبها الهادف إلى تحقيق الوحدة الإسلامية .
المحورالأول : الواقع الإسلامي :
المسلمون يشكلون خمس سكان العالم تقريباً , ويتوزعون في كل القارات , والعالم الإسلامي يوجد جغرافياً في قلب المعمورة وله صلاة جغرافية بمعظم قارات الدنيا , بل يسيطرعلى أهم الطرق والممرات الدولية , ويسيطرعلى معظم الطاقة البترولية في العالم , فأمة الإسلام من حيث العدد والموارد والموقع الاستراتيجي والرباط الروحي أمة فريدة لا تضاهيها أمة أخرى . ولكن مع هذه الميزات البارزة فإنها تعاني من الآتي :
أولاً : التقسيم القطري : فمنذ سقوط الخلافة العثمانية في تركيا عام 1924م فقدت الأمة الرباط السياسي وتقسمت إلى دويلات قطرية صغيرة منغلقة على نفسها وحلت المواطنة محل الرباط الديني, وفي معظم الأحيان توجد مشاكل بين الدولة وجاراتها من الدول التي تنتمي إلى نفس الدين بل دخلت في حروب استعانت فيها بالأجنبي على ابن العم فاتسعت شقة الخلاف وصار الغريب أقرب من الجار الشقيق الذي تجمعه مع جاره ديانة واحدة وثقافة واحدة وتاريخ مشترك ..
ثانياً : التفاوت الإقتصادي : بعض الدول الإسلامية تصنف من الدول الغنية وبعضها متوسطة الحال وأخرى تعيش تحت خط الفقر , فالفوارق الإقتصادية افرزت فوارق اجتماعية ونفسية قتلت الشعور بالوحدة عند كثير من المسلمين , مع أن الدعوة الإسلامية في الأصل جاءت لتصحيح العقيدة وللتقسيم العادل للثروة , وشنّت حملة كبيرة على المحتكرين والمرابين وأصحاب الكنوز والمانعين الماعون والممتنعين من الحض على طعام المسكين . هذا التفاوت لم يقتصر على الدول بل انسحب حتى على المواطنين في الدولة الواحدة فبعضهم يموتون من التخمة وآخرون يموتون من الجوع وصدق إمام المتقين علي عليه السلام عندما قال : " ما جاع فقير إلا بتخمة غني " ..
ثالثاً : الصراع السياسي : لا تكاد دولة اسلامية تخلو من صراع على السلطة , والصراع والتدافع جبلة بشرية ولكن طبيعة الصراع السياسي في البلدان الإسلامية صراع خشن إلا من رحم الله فالدول الغربية مثلاً حلت هذا الاشكال واهتدت إلى التداول السلمي للسلطة فوفّرت كثيراً من الطاقات والإمكانات والأرواح المهدرة في الصراع من أجل السلطة , ولكن عالمنا الإسلامي في الغالب يخلو من الحاكم السابق الحر الطليق فهو إما في السجن وإما في القبر , وطبيعة الصراع السياسي عندنا تخلو من التسامح فالحكومة لا ترى في المعارضة إلا متآمرة وخائنة ومخربة والمعارضة لا ترى في الحكومة إلا الوجه القبيح المتمثل في البطش والتنكيل والفساد ...الخ
رابعاً : الخلاف : أصبح الخلاف سمة غالبة فهنالك خلاف طائفي وهناك خلاف سياسي وهناك خلاف فكري وهنالك خلافات مذهبية , والخلاف سنة إلهية وضرورة اجتماعية وواقع كوني ولكن طبيعة الخلاف هي التي تفرق بين الخلاف المذموم والإختلاف المحمود , إن الواقع الإسلامي يبين أن معظم الخلافات مذمومة لأن كل صاحب مذهب أوطائفة أو فكر لا يقبل بالآخر ويسعى لاستئصاله , بل انتشرت ظاهرة التكفير التي أصبحت سمة غالبة لخوارج العصرالحديث , فالخلافات داخل الأمة واحدة من عوامل التراجع ..
خامساً : الأطماع الخارجية : تلك العوامل أظهرت الأمة بمظهرالضعف , فقد عجزت أن تحرر القدس أولى القبلتين والحرم الثالث في الإسلام , هذا الضعف أطمع العدو فصار ينفذ سياساته في بلاد المسلمين عبر بلدان وشخصيات مسلمة , وصارت ديار المسلمين ساحة للحروب الدولية بالأصالة والوكالة , وفقدت الأمة شخصيتها الإعتبارية وصار الغرب مبهراً لكثير من الشباب المسلم لأنه يجد عنده ما يفتقده في بلده كالتنمية والحرية واحترام حقوق الانسان ..الخ فهاجر كثيرمن أبناء المسلمين للغرب طلباً للرزق أو فراراً من البطش أو تلبية لحاجة نفسية .
سادساً : الشعار الإسلامي : اختطف من قبل الغلاة والمتطرفين , فالمظالم المشار إليها أصبحت بيئة صالحة لولادة التطرف , واستغل المتطرفون هذا الواقع واندفعوا ينشدون التغيير فشنوا حرباً على الجميع وأعلنوا الجهاد على الكفار فدفعوا بالأمة إلى أتون حرب لم تكن مستعدة لها , وهكذا وجد العدو فرصته ليعلن الحرب على كل المسلمين تحت شعار الحرب على الارهاب , فضاعت قضية المسلمين المركزية ـ احتلال فلسطين ـ وفقدنا أفغانستان , و تحول العراق إلى بـؤرة متفجرة , اختلطت فيها الأوراق : فالارهاب والاستهداف الطائفي والغلو عناصر أدت إلى تشويه مقاومة الاحتلال . ولبنان مهدد بالانجراف , والصومال تمزق , والسودان في طريقه إلى التمزق , هنالك تحالف بين الاستبداد والتطرف وتيارالمحافظين الجدد في أمريكا , هذا التحالف هو المسئول عن الكارثة التي تمر بها أمتنا في الوقت الراهن .
سابعاً : الشعوب الإسلامية لديها وعى كبير يتفوق على قادتها في بعض الأحيان , لأنها ما زالت تتميز بالنقاء ولم تتلوث بأمراض السلطة والثروة , فهي تتطلع إلى استعادة مجدها والإعتزاز بدينها , وقد قدمت سنداً معنوياً كبيراً لحركة المقاومة في فلسطين , ووقفت مع المقاومة اللبنانية حتى انتصرت على العدو الصهيوني انتصاراً كبيراً اعتبرته الشعوب نصراً للأمة كلها وربما خالفت في ذلك بعض نظمها الحاكمة , إن الوحدة الإسلامية تتبلور الآن في وحدة المشاعر والمواقف الشعبية ويمكن أن تتطور إلى وحدة سياسية واقتصادية إذا استصحبت الشعوب وأشركت في القضايا المصيرية ..
المحورالثاني : التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية :
التحدي المعرفي :
تميز الإنسان على المخلوقات الأخرى بالعقل والإرادة والحرية وبالمعرفة الواسعة التي خصّه الله بها قال تعالى : ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿31﴾ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿32﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة :31-33] ومعجزة الرسول الخاتم تتمثل في القرآن الكريم الذي نزلت آياته الأولى مبينة قيمة العلم والمعرفة قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق:1-5] والحضارة الإسلامية تاريخياً قامت على صرح علمي متكامل شمل كل جوانب الحياة وتوفر في ظلها المناخ الذي ساعد في تفجير الطاقات الإنسانية فاكتشفت العلوم وتوسعت المعارف ووضعت المناهج العلمية التي اهتدى بها اللاحقون , غير أنّ هذا العطاء تراجع لعدة عوامل أهمها : أن المناهج السائدة في عالمنا الإسلامي لا تساعد على الإبداع والإبتكار والتجديد فهل من سبيل لإيجاد منهج يتعامل مع القرآن والسنة بأسلوب الإستنطاق كما سمّاه الشهيد سماحة الإمام محمد باقر الصدر , منهج يؤسس لمنظومة معرفية تنطلق من الكتاب المقروء ( القرآن الكريم ) والكتاب المنظور( الكون ) منهج يغرس في المسلم ملكة النقد والمقارنة والإستنتاج العقلي , منهج يواكب حركة التطور التي حدثت في الكون بسبب ثورة الإتصالات والمواصلات وضخ المعلومات بصورة لم يسبق لها مثيل ! إن أول تحد يواجه أمتنا هو التحدي المعرفي ..
التحدي السياسي :
الإسلام جاء ديناً خاتماً للرسالات اشتمل على أصولها وتميّز عليها بالعموم وصلاحية التطبيق عبر الزمان والمكان , وقد اهتم الإسلام بكل شئون الحياة الفردية والمجتمعية وعلى نطاق الدولة وعلاقاتها وكان العهد النبوي وعهد الراشدين يجسد الروح الإسلامية في المجال السياسي , غير أن هذا النهج انقطع بتحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض , فتعطلت الشورى وغاب العدل واضطرب النظام السياسي إلى يومنا هذا , لقد توصل الغرب إلى بلورة فكر سياسي تمخض عنه النظام الديمقراطي وهو نظام يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية والفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة وسيادة الدستور . إنه يشكل تحدياً كبيراُ لأمتنا التي تحفظ شعارات عن النظام السياسي مثل الخلافة ونظام الشورى غير أن هذا النظام لم يتبلور في شكل نموذج متفق عليه من علماء الامة وقادتها ولم يطبق في أرض الواقع لينافس النظم السائدة في الساحة العالمية , مما جعل الرأي العام الإسلامي منقسماً فبعضه يؤيد النظام الملكي وبعضه ينادي بالديمقراطية وبعضه يتطلع للخلافة .. وهكذا . فالتحدي الذي يواجهنا في هذا المجال هو كيف نبلور نظاماً سياسياً يعبر عن مبادئ الإسلام ومقاصده وتعاليمه لتلتف حوله الأمة وتدعو له ؟.
التحدي العلمي :
التطورالعلمي بلغ مبلغاً ليس له مثيل في التاريخ المعلوم , وكان للحضارة الإسلامية قصب السبق في اكتشاف العلوم ووضع مناهج البحث العلمي , غير أن هذا النجاح أصبح من التاريخ , واليوم فإن العالم الإسلامي في مؤخرة الأمم في مجال الانتاج العلمي والتكنولوجي , وإن وجد بعض النشاط العلمي فهو منقول عن الآخرين وليس أصيلاً , لقد تطورت العلوم بصورة مذهلة بعد اكتشاف الذرة والطاقة النووية , ويتحدث العلم الآن عن الجينات والاستنساخ والاحتباس الحراري ونظرية الكون المتمدد وغيرها من التطورات الهائلة في مجالات العلوم فماهو حظ المسلمين من كل ذلك ؟ إن التحدي العلمي الذي يواجه أمتنا لا يستهان به فما العمل ؟
التحدي الاقتصادي :
النشاط الإقتصادي الآن تجاوز المفاهيم التقليدية وظهرت مفاهيم الشركات العابرة للقارات وأسواق الأسهم والتجارة عبر الشبكة العنكبوتية ( الانترنت ) وهي مفاهيم تعكس حجم التطور الذي حدث في الإقتصاد العالمي , غير أن العالم الإسلامي أغلبه يصنف ضمن الدول الفقيرة فكثير من دوله لا تستطيع توفير القوت ولا المياه النقية لشعوبها , واقتصاديات كثير من الدول الإسلامية مرهونة للنظام الاقتصادي الغربي , ومما يستغرب له أن بلداننا غنية بالموارد الطبيعية كالتربة الصالحة للزراعة والمياه العذبة والثروة الحيوانية والغابية والكثافة السكانية ولكنها عاجزة عن استغلالها وتطويرها بسبب سوء الإدارة والرشوة والفساد ..الخ وحتى المصارف التي قامت على النظام الإسلامي لم تشكل بديلاً مصرفياً جاذباً بل صار كثير منها أكثر سوءً من البنوك الربوية , لقد كتب كثير من العلماء عن الإقتصاد الإسلامي والملكية في الشريعة الإسلامية والنظام النقدي وغير ذلك لكن يظل الواقع الإقتصادي عاجزاً عن المنافسة فالتحدي الذي يواجهنا هو كيف نقدم نظرية اقتصادية اسلامية عملية تبلور نظاماً اقتصادياً بديلاً يتناول علم الاقتصاد ويحدد معالم النظام الإقتصادي الإسلامي ويعالج مشكلة الإنتاج والتوزيع العادل للثروة ويحارب الربا والاستغلال والاحتكار..الخ
التحدي الدولي :
عالم اليوم لا نجد له وصفاً في التاريخ , فكتب السير عندنا تتحدث عن نظام دولي ينقسم إلى دولتين هما دولة الإسلام ودولة الكفر , ودولة الكفر إما أن تكون حربية وإما أن تكون داخلة مع المسلمين في عهد , ولكننا اليوم نعيش في عالم مختلف فالنظام العالمي اليوم يقوم على دول قطرية تقوم الحقوق فيها على أساس المواطنة , وقامت فيه منظمة دولية هي الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية المتخصصة وهي مؤسسة يحكمها ميثاق عالمي يهدف إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين , وتضم الأمم المتحدة دولاً تنتمى إلى كل الأديان والثقافات والقارات , وهناك تكتلات إقليمية كالاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي , إضافة إلى تكتلات إقتصادية وأحلاف عسكرية ومنظمات ثقافية , وجمعيات حقوق الانسان .. وغيرها من المؤسسات الدولية التي تتدخل في سيادة الدول وحرية الأفراد بقوة القانون الدولي . إننا أمام هذا التحدي الدولي المعاصر مطالبون ببلورة منهج للتعامل مع هذا الواقع من داخل ديننا حتى نكون متصالحين مع أنفسنا ومع عقيدتنا وقادرين على التعاطي مع واقعنا بإيجابية .
التحدي الوحدوي :
الوحدة الإسلامية تمثل أشواقاً وجدانية وتطبيقاً لأمر إلهي : ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء:92] إن عوامل الوحدة متوفرة عند المسلمين , فالإله واحد والنبي متفق على سيرته منذ ميلاده وحتى وفاته والكتاب متفق عليه والقبلة واحدة والتاريخ مشترك والمستقبل واحد والمشاعر متفقة , غير أنه بالرغم من وجود هذه الموحدات إلا أن البون شاسع بين الدول الإسلامية فالمصالح متناقضة والفوارق كبيرة والحواجز النفسية سميكة , والحدود القطرية صارت مقدسة تحرِم المسلم حتى من الحقوق الإنسانية , إن التناقض بين التطلعات والقدرات , والتباين بين المثال وبين الواقع المعاش , والإختلاف بين المحفوظ وبين المنظور كل ذلك يشكل عبئاً ثقيلاً على العقل الجمعي للأمة , فالتحدي هو كيف تتحقق الوحدة في ظل هذه الأوضاع .؟
المحور الثالث : الحلول والمخارج الممكنة :
القرآن الكريم يعلمنا أن الابتلاءات والامتحانات قدر إلهي يمحص الله بها المسلم ويختبر بها الأمة , فالإنسان خلق ليكدح في الأرض ويبتلى بأمر الاستخلاف الذي عجزت السموات والأرض والجبال عن القيام به قال تعالى : ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب:92] ويخبرنا القرآن أن المسلم لا تزيدة الابتلاءات إلا منعة فهو محصن بالإيمان وبالاستعانة بالله على مصائب الدهر , وأنّ نصره سيتحقق إذا استكمل شروط النصر , وهي شروط استودعت في سنن إلهية لا تحابى ولا تتخلف فمن استوفاها نال مطلوبه ومن تخلف عنها لم يحقق نصراً وإن تمسّح بكل الشعارات والمسميات الإسلامية قال تعالى : ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة:177] وفي عصرنا الحالي فإن الإبتلاء الذي حدث هو ابتلاء للأمة وهو أخطر من ابتلاء الأفراد , لأن الأمة إن لم تنجح في الاختبار سوف تستبدل قال تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿19﴾ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [ابراهيم:19-20] فلكى نخرج من هذه الورطة فإننا مطالبون بالتفكير الجمعي انطلاقاً من الأصل الذي توحد عليه سلفنا واستطاعوا عبره أن يغيروا التاريخ ويحملوا للإنسانية حضارة دينية انسانية تحكمها الأخلاق ويقومها الدين , حضارة استطاعت أن تغير العقل البدوي الذي كان يفتخر بالأنساب ويعتز بالعصبية وتأخذه الحميّة بالحق وبالباطل مثل قول القائل :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
هذه المفاهيم غيرها الإسلام إلى مفاهيم العدل عند الغضب والعفو عند المقدرة والإيثار عند الحاجة , قال تعالى : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾[الأعراف:199] وقال تعالى : ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [النحل:126] وقال تعالى: ﴿... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:9] فالمسلمون بالرغم من ضعفهم الماثل إلا أنهم في الواقع يقفون على أرضية صلبة ويستندون إلى مرجعية أثبتت جدواها في التاريخ فالمطلوب هو مراجعة الأداء الحالي على هدى المرجعية للخروج من هذا المأزق الراهن وذلك بالآتي :
أولاً : نقد الذات : إن مراجعة الأداء وتقييم التجارب ومحاسبة النفس والإعتبار بالتاريخ مفاهيم حثّ عليها الإسلام في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم , لأنها خطوات أساسية في تحسين الأداء , وعوامل فعّالة في إصلاح الحال , قـال تعـالى : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ آل عمران:135] وعاب الإسلام على أولئك الذين يرفضون المراجعة ولا يعترفون بأخطائهم تعالياً واستكباراً قال تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴿204﴾ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴿205﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة:204-206] عليه فإن النقد الذاتي يبصرنا بمواقع الخلل ويعصمنا من الانزلاق في مهاوي الردى , وينمي فينا ملكة التمييز بين الحق والباطل , والتفريق بين الإيجابيات والسلبيات , وإذا طبقنا منهج النقد الذاتي على واقعة من وقائعنا المعاصرة لأدركنا حجم الخطأ الذي وقعنا فيه , وعلى سبيل المثال تعامُلُنا مع الحرب العراقية الإيرانية , فهي حرب وقعت بين دولتين مسلمتين فلو طبقنا المنهج الإسلامي على هذه الواقعة لوجدنا الآتي : قال تعالى : ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[الحجرات:9-10] هذا التوجيه يفيد الآتي :
ـ نشوب قتال بين طائفتين مؤمنتين .
ـ وجوب السعي بينهما بالصلح .
ـ تقصي الحقائق لمعرفة المعتدي في حال تعذر الصلح .
ـ التضامن بين جميع المسلمين لمقاتلة الطائفة الباغية حتى ترجع إلى الحق .
ـ بعد رجوعها مطلوب السعي للصلح بينهما وذلك بإزالة المظالم وإحقاق الحق .
ـ التأكيد على أن الأخوة بين المؤمنين هي الأصل وأن الأحداث العابرة ينبغي أن لا تصرفنا عن الأصل .
وبتطبيق هذا المنهج على تلك الواقعة نجد أننا قد خالفنا المنهج الإسلامي وذلك بالآتي :
بعضنا تخوف من تأثير الثورة الإسلامية في إيران على مصالحه فوقف مسانداً لأحد الطرفين مقدماً المصلحة الذاتية على المصلحة العامة للأمة .
آخرون ساندوا هذا الطرف ضد الطرف الآخر محكومين بالعصبية .
وآخرون دعموا الحرب خدمة لأجندة خارجية تضررت مصالحها بقيام الثورة الإسلامية في إيران .
والذين دعوا إلى تطبيق المنهج الإسلامي لم يلتفت إليهم أحد .
وهكذا فإن التعامل الخاطئ مع هذه الواقعة جاء بنتائج عكسية فلا المصالح الذاتية تحققت , ولا الثورة احتويت , والأجندة الخارجية سقطت , وحامي المصالح الإقليمية والدولية انقلب على مسانديه الإقليميين والدوليين , ووقعت المنطقة كلها ضحية للعدوان والإحتلال وصدق الله سبحانه وتعالى حيث يقول : ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴿124﴾ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ﴿125﴾ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴿126﴾ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه:124-127] إن اتباع الحق هو النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته القضائية لأبي موسى الأشعري : " ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت لرشدك , أن ترجع إلى الحق فإن الحق لا يبطله شئ واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل " إننا بالنقد الذاتي نصحح أخطاءنا ونصوب مسيرتنا ونستمطر رحمة الله التي هي قريب من المحسنين .
ثانياً : بلورة منهج جديد للتفكير : لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤسس العقلية الإسلامية في الصدر الأول على هدى القرآن الكريم والسنة المطهرة فقام عند المسلمين تصور واضح للوجود ولوظيفة الإستخلاف وللكون والحياة والمصير , فلم يحتاروا في تعاملهم مع الواقع بل استطاعوا أن ينقلوه إلى الأفضل بالسلم والإقتناع , لقد تآكل هذا التصور مع مرور الزمن وتعطل العقل الجمعي عن الإنتاج والإبتكار , وصار الفكر في الغالب جامداً في مرحلة تاريخية معينة , يجتر حوادث التاريخ ويبرر الواقع الظالم الذي لا يستطيع تغييره . نحن محتاجون لبلورة منهج جديد يوفق بين الأصالة والمعاصرة , ويجعل الفكر قادراً على التجديد والمواكبة والتحصين من الذوبان , إن عالمنا الإسلامي اليوم متنازع بين الأفكار , ففي ظل الهيمنة الغربية وتأثيرها على الواقع البشري برزت ثلاثة اتجاهات : الإتجاه الأول : يدعو إلى التحرر من الإسلام أو على الأقل حصره في الجانب الشخصي وتبنّي المنهج الغربي لأنه أثبت جدواه عندما تحرر من سلطان الكنيسة فحقق التقدم الحالي. والإتجاه الثاني : يرفض التعامل مع الحضارة الغربية في أي صورة من صورها ويدعو إلى الإنكفاء على الذات والإبتعاد عن أي عطاء انساني يأتي من الآخر. والإتجاه الثالث : يدعو إلى منهج وسط يرتكز على العقيدة ويستصحب اجتهادات السلف التي توافق ظروفنا ولا يتحرج من الإقتباس من الآخر . ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم قد أشار إلى تلك المناهج وبين حقها من باطلها , فقال عن منهج التبعية : ﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ [ابراهيم:26] وعن منهج التقليد دون تمييز قال : ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴿23﴾ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [الزخرف:23- 24] وقال : ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة:141] وأما المنهج التجديدي الملتزم بالأصل مع مواكبة العصر فقال عنه : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ﴿24﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ابراهيم:24-25] إن المنهج الثالث هو الذي ينبغي أن نتبنّاه وهو منهج يقوم على قطعيات الورود والدلالة , والتمييز بين الثابت والمتغير في الأحكام , ويأخذ بالحكمة ولا يضيره من أي وعاء خرجت , يقول السيد محمد باقر الصدر عن هذا المنهج إنه يجرى " عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له , وليست مجرد استجابة سلبية , بل استجابة فعالة وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى" وهو نفس النهج الذي سار عليه السلف فاهتدوا إلى الصراط المستقيم قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : " ذلك القرآن فاستنطقوه , ولن ينطق , ولكن أخبركم عنه , ألا ان فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي , ودواء دائكم , ونظم ما بينكم " إن هذا المنهج يجمع ولا يفرق ويوحد ولا يمزق إنه المنهج الذي سار عليه سلفنا فحافظوا على وحدة الكلمة مع تنوع الاجتهادات .
ثالثاً : قراءة التاريخ بمنهج تمييزي : التاريخ يلقى بظلاله على الحاضر لأن السلوك البشري ينطلق من خلفيات ثقافية وعقدية واجتماعية وهي تمثل ماضي وحاضر الإنسان , لقد وقعت في تاريخنا أحداث كثيرة أثرت على مسيرة الحياة وما يعنينا في هذا المجال هو الصراع التاريخي بين الفرق الإسلامية : السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة والظاهرية والصوفية..الخ هذا الصراع له أسبابه ودوافعه ومبرراته التاريخية ولكنه ظل حاضراً في كل خلافاتنا المعاصرة إن " أهم جدليات الاختلافات الفكروية : جدلية الظاهر والباطن ـ والنقلي والعقلي ـ والسنة والشيعة . الجدليتان الأوليتان أدتا لنشأة فرق ومدارس كثيرة وستتكاثر اجتهاداتها مع الحرية . ولكن الثالثة مصدر تفرق اختلط بصراع السلطة والسياسة ، وببدايته أدى لأوائل المعارك التي فرقت كلمة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهم جميعاً ، وأورثت فتنة ما زالت قابلة للاشتعال " ومما لا ريب فيه أن الصراع السني الشيعي تطورمن خلاف سياسي إلى خلاف فكري أدّى إلى حرب بين الطرفين واضطهاد متبادل فـ" الدول التي غلب عليها السنة اضطهدت مواطنيها الشيعة ، والعكس صحيح . وكانت العلاقة بينهما قائمة على التنافر والتخوين والتكفير ، تنافر في الكيانات والدول استقر على توازن بارد حيناً وساخن أحياناً " هذه الأحداث التاريخية ذهب أبطالها وغاب مسرحها فلا يجوز اسقاطها على الواقع المعاصر , لقد حدثت تطورات كبيرة أدت إلى تقارب بين الطرفين , والذي ينبغي أن ندركه أن الشيعة اليوم ليسوا هم شيعة الأمس ولا السنة اليوم هم سنة الأمس , فقد حدثت مراجعات كبيرة عند الطرفين , إن هنالك سلوكيات ومواقف مستفزة علينا تجنبها مثل : الحديث عن الروافض , وسب الصحابة , والاساءة إلى الشيخين ( أبي بكر وعمر ) إلى غير ذلك من المواقف التي تفرق ولا تجمع . إن تجاوز صراعات الماضي وطي صفحته يفتح الطريق إلى الوحدة .
رابعاً : الوعي بالواقع : معلوم أن الفقه يتمثل في معرفة الأحكام والأشخاص والوقائع والإحاطة بالواقع الذي تطبق فيه , وواقعنا اليوم تعرض له المحور الأول من هذه الورقة إضافة إلى ذلك فإن هنالك تغيرات طرأت على سلوك كثير من المسلمين في حياتهم وعلاقاتهم بسبب التطورات التي استجدت في عالم اليوم , إن التقارب الذي حدث في دنيا البشر جعل العالم متداخلاً ومتأثراً ببعضه بعضاً , فوسائل الإعلام تنقل إلينا أنماطاً متعددة من أساليب الحياة والسلوكيات والأفكار بصورة لها تأثيرها المباشر على حياتنا , ووسائل المواصلات تنقلنا إلى كل أنحاء العالم وهكذا بفعل التأثير المتبادل تعددت المطالب وتنوعت الضروريات وتبدلت القيم , علينا ونحن نتطلع إلى الوحدة أن ندرك الآتي :
أن المصالح مقدمة على المبادئ والقيم في عالم اليوم والشواهد أكثر من أن تحصى والمسلمون تأثروا بهذا الأمر , ونخطئ إذا توقعنا موقفاً مشابهاً لموقف الأنصار عندما آثروا إخوتهم المهاجرين على أنفسهم فقاسموهم الدار والأموال والزوجات , بل إن الذين تعرضوا للنكبات من المسلمين في وقتنا الحاضر لم يجدوا من إخوتهم حق الجوار ناهيك عن حق المسلم والشواهد كثيرة في الصومال ودارفوروحتى فلسطين ولبنان والعراق فإن ما يقدم لهم لا يصنف بأنه تكافل وتضامن بين أبناء الملة الواحدة الذين يوجب دينهم بإنفاق الفضل من الظهر والمال والدار .
المجتمع الغربي بكل مساوئه صار جاذباً لكثيرمن المسلمين , فعدد الذين يطلبون الهجرة إلى الغرب من المسلمين أكثر من طالبي الهجرة إلى بلدان اسلامية , لأن الحرية والكرامة وكفالة حقوق الإنسان التي يجدها المسلم في الغرب لا يجدها في بلده بالرغم من مظاهر الكراهية التي ظهرت في بعض البلدان الغربية ضد الإسلام مثل : الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنع الحجاب واتهامات البابا . مع كل ذلك يظل الغرب في الجوانب الانسانية متقدماً على العالم الإسلامي .
القنوات الفضائية المتخصصة في الغناء والرقص والميوعة في عالمنا الإسلامي أكثر من تلك التي تتناول قضايا فكرية ودينية وإخبارية ! والمراقب يدرك دون أي شك أن رواد الأولى أكثر من رواد الثانية وجلهم من الشباب الذين يفترض أنهم سيكونون قادة المستقبل .
عوامل الإحباط فرخت نهجين سيطرا على الساحة الشعبية الإسلامية نهج التطرف والغلو , ونهج الإنحلال واللامبالاة واتباع الهوى , وروادهما أكثر من رواد النهج الملتزم المستقيم .
الخطاب الديني الحالي لا يمتلك أدوات التغيير لأنه منفصل عن الواقع ولا يخاطب قضاياه بصورة إيجابية فهو إما متمرد على الأوضاع يخاطبها بلغة الغلاة , وإما مدجن يبرر الواقع ويدعو للصبر عليه حتى يأتي الفرج , ولذلك انصرف كثير من الشباب عنه لارتياد مواقع يشبعون فيها حاجاتهم .
هذا الواقع يحتاج إلى تشخيص من خبراء يحددون العلل كما هي دون تلوين ويصفون العلاج الناجع, معرفة الواقع خطوة أساسية للاصلاح وبالتالي لرسم معالم الوحدة الإسلامية .
خامساً : ترسيخ فقه الأولويات والكليات والمقاصد : إن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تؤكد أن هنالك أولويات يجب اتباعها , وإلا سيكون النشاط غيرمثمر مثله مثل نهج الذين قال الله عنهم : ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴿2﴾ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴿3﴾ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ﴾ [الغاشية:2-4] فالدعوة الإسلامية من خصائصها التدرج والمرونة ورفع الحرج , ولكن مع عجز العلماء عن الأخذ بزمام المبادرة في كثير من البلدان تصدى للنشاط الدعوي من لا فقه لهم فأوقعوا الأمة في مأزق , وصار الرأي العام يوجهه أصحاب الشعارات لا العلماء , والعامة معذورون لأنهم لا يرون من علمائهم إلا عجزاً أو تبريراً للأوضاع وصدق إمام المتقين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه حينما قال : " الناس ثلاثة : عالم رباني ؛ ومتعلم على سبيل نجاة ؛ وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق , يميلون حيث تميل الريح " في ظل هذه الأوضاع اختلت المفاهيم وضاع فقه الأولويات , فقدمت الجزئيات على الكليات , والفضائل على الفرائض , وجعلت الصغائر كبائر , لابد من تكاتف الجهود لتصحيح هذه الأوضاع , إن فقه الأولويات فقه أصيل في الشريعة الإسلامية يؤكده نهج التدرج الذي اتبعه الإسلام في تنزيل الأحكام , عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذاً قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله , فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة , فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم , فإن هم أطاعوا لذلك , فإياك وكرائم أموالهم , واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " إن مراعاة الأولويات في الدعوة تضيق الشقة بين المسلمين وتخرج الخطاب الإسلامي من المأزق الذي أوقعه فيه الغلاة وصغارالعقول ومن ثم تكون معالم الوحدة أوضح لأن المشترك بين المسلمين يتمثل في الكليات والمقاصد والمبادئ التي لا خلاف عليها , وتختلف الأولويات حسب الحال والبيئة لكل عصر ومصر وظرف ..
سادساً : إزالة المظالم المفرخة للآزمات : ربط الإسلام بين التوحيد والعدل , وشدد على مبدأ المساواة ، وحث على رفع المظالم وإعطاء الحقوق لأصحابها , لقد وقعت مظالم كثيرة في عالمنا الإسلامي أدت إلى تفرق الكلمة وذهاب الريح , وهي تشكل عقبة كأداء أمام وحدة الأمة فالواجب إزالتها , لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب . والمظالم المعنية كثيرة أهمها :
المظالم السياسية وهي تتمثل في غياب الشورى والمشاركة والعدالة وهي مبادئ أدى غيابها إلى سيادة النظم الشمولية القائمة على التغلب والقهر , فولدت العنف والعنف المضاد مما أدى إلى تفرق كلمة الأمة وإهدار حقوقها وإسالة دمائها.
المظالم الإجتماعية وهي تتمثل في غياب التكافل والتراحم والتعاون بين أبناء الأمة واهدار حقوق المسلم التي حثّ عليها الإسلام .
المظالم الاقتصادية وتظهر في عدم توفير الضرورات الحياتية للانسان واحتكار الثروات لفئات قليلة توظفها لشهواتها ونزواتهاعلى حد قول القرآن الكريم : ﴿... وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾[الحج:45] .
مظالم فكرية : وهي تتمثل في الغاء الآخر وتكفيره وعدم الاعتراف بحقه في الاجتهاد , واستعمال العنف ضده إذا جاء برأي مخالف .
إن وجود هذه المظالم وغيرها يولد الحقد والحسد ويؤدي إلى التقاطع والتدابر ومن ثم يتطور الأمر إلى التكفير وإهدار الدماء , وبالتالي تجد الأمة نفسها في نزاع وخصام .
سابعاً : انشاء آلية أممية للإجتهاد والتنسيق وفض النزاعات : المجهودات التي بذلت في المجال الفكري النظري المتعلق بشأن الوحدة الإسلامية كبيرة , وآن الأوان لخطوات عملية في طريق هذه الوحدة والآليات التي أقترحها تتمثل في الآتي :
آلية للإجتهاد : تضم أهل الإختصاص من كل الفرق والجماعات الإسلامية لتتولى البحث في التراث الإسلامي والفكر الانساني والعلوم والمعارف الحديثة يناط بها الاجتهاد المؤسسي الذي يخرجنا من المفاهيم الفردية والنزعات الذاتية .
آلية لفض النزاعات بين الدول والجماعات الإسلامية : تتكون من حكماء وخبراء وقادة سياسيين ودينيين وعلماء تتولى التصدي لأي نزاع ينشأ بين الدول والجماعات الإسلامية .
آلية للتنسيق والمتابعة : يوكل إليها تجميع الأفكارالتي تشكل قاسماً مشتركاً بين الجماعات الإسلامية , وتقوم بالتنسيق بين الجماعات وتنظيم أنشطة مشتركة تأهيلية وتدريبية ودعوية تحقق الوحدة بالإحتكاك والممارسة .
ـ الخاتمة ـ
إن وحدة المسلمين قريبة وبعيدة في آن معاً . فإذا نظرنا إلى الواقع بتعقيداته واحباطاته وتحدياته , فإنه ينبئنا عن استحالة الوحدة , وإذ رجعنا للمصادر الأصلية للإسلام ـ القرآن والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ واستصحبنا تطلعات ومشاعر غالبية المسلمين , مع الأخذ في الاعتبار فشل التجارب والنظم الوافدة لأدركنا أن الوحدة أقرب إلينا من حبل الوريد , ولكن هنالك شروط ينبغي توافرها منها : الاقبال على الله سبحانه وتعالى باخلاص وخضوع والاستعانة به في كل الخطوات والتخلي عن الذنوب والآثام والتحلي بالفضائل وأخلاق الربانيين والاقتباس من هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة , إضافة لما ورد في الورقة من تحليل ووصف ومقترحات وما يقدمه الآخرون في أوراقهم من أفكار وآراء ومقترحات , فإن الهدف سيتحقق وصدق المولى سبحانه وتعالى إذ يقول :
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء:105]
وأشكر في ختام هذه الكلمة الجهات المنظمة لهذا المؤتمر ودعوتها لنا للتفاكر حول هذا الموضوع الهام الذي يشغل بال الأمة ويثقل كاهلها , والشكر لجمهورية إيران الإسلامية على استضافتها لهذا المؤتمر فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران عرف الفكر الانساني أسلوباً جديداً في التعاطي مع قضايا المسلمين فهي حقاً ثورة المستضعفين . ولا يفوتني في هذا المقام أن أترحّم على روح مفجرها الإمام آية الله الخميني طيب الله ثراه ,
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وزارة الثقافة والاعلام بالتعاون مع جامعة الامام الصادق ( ع )
المؤتمر العلمي العالمي في الفترة من 10 ـ11 مارس 2007 طهران
تحت شعار الجهاد العلمي
الوحدة الإسلامية التحديات والحلول
تقديم الأستاذ / عبد المحمود أبّو
الأمين العام لهيئة شئون الأنصار ـ السودان
ـ المقدمة ـ
الدعوة الإسلامية منذ أن انطلقت في مكة المكرمة واجهت تحديات كثيرة من المجتمع الجاهلى تمثلت في الصدود والإنكار والتشكيك والمواجهة ومحاولة الاستئصال ولكن الدعوة كانت تحمل عناصر القوة في داخلها فتمكنت من الصمود في وجه الإبتلاءات وحققت انتصارات تلو انتصارات على النظام الجاهلي فثبتت أقدامها وأبطلت مفعول أدوات الخصم حتى ضاق بها ذرعاً وقرر القضاء عليها فانتقلت إلى المدينة المنورة .
وفي المدينة واجهت الدعوة تحديات بناء النظام الجديد على أسس ومفاهيم غريبة على النظام القبلي الذي كانت تسيطرعليه قبيلتا الأوس والخزرج وحلفاؤهما من اليهود , فكانت التحديات تتمثل في : بناء المجتمع على مفاهيم الدين الجديد وتجاوز الصراع الأوسي الخزرجي , ومواجهة التيار السلولي ـ نسبة إلى عبدالله بن أبي بن سلول ـ والتصدي للمكراليهودي , فضلاً عن الاستعداد للمواجهة المحتملة مع أهل مكة الذين لن يسكتوا على اللطمة التي وجهها لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة وافشال مخططهم الذي اتفقوا عليه في دارالندوة .
وعلى طول المسيرة التارخية تعرضت أمة الإسلام لتحديات كثيرة داخلية وخارجية استطاعت أن تواجهها وتخرج منها منتصرة بالرغم من الخسائر التي تعرضت لها , وأخطر تلك التحديات كان الخلاف الذي فرق الأمة إلى فرق وجماعات جرت بينها حروب حصدت فيها آلاف الأرواح , ثم الإستعمارالخارجي وغير ذلك من التحديات التي لا تزال آثارها تنهش في جسد الأمة الممتلئ بالقروح والأمراض .
إن أمتنا اليوم تمر بمنعطف تاريخي خطير حيث تكالبت عليها الأمم من كل الأرجاء للقضاء عليها وأنهكتها الحروب الداخلية والخلافات الطائفية والمذهبية , وعطلت نهضتها النظم الشمولية والصراعات السياسية , إنها مطالبة بمراجعة مسيرتها وتشخيص أمراضها وتحديد الدواء حتى تنهض من جديد لمواصلة مسيرتها القاصدة بإذن الله . إنني أشارك بهذه الورقة في هذا المؤتمرالهام الذي أعتقد أنه جاء في الوقت المناسب لأن شعوبنا تتطلع لقادة الفكر والرأي أن يقدموا الحلول التي يمكن أن تنتشل الأمة من هذا الواقع المرير , وأن يبينوا الوسائل التي تؤدي إلى وحدة الأمة وورقتي تشتمل على مقدمة وثلاثة محاوروخاتمة , وهي مساهمة متواضعة لاستنهاض الأمة للقيام بواجبها الهادف إلى تحقيق الوحدة الإسلامية .
المحورالأول : الواقع الإسلامي :
المسلمون يشكلون خمس سكان العالم تقريباً , ويتوزعون في كل القارات , والعالم الإسلامي يوجد جغرافياً في قلب المعمورة وله صلاة جغرافية بمعظم قارات الدنيا , بل يسيطرعلى أهم الطرق والممرات الدولية , ويسيطرعلى معظم الطاقة البترولية في العالم , فأمة الإسلام من حيث العدد والموارد والموقع الاستراتيجي والرباط الروحي أمة فريدة لا تضاهيها أمة أخرى . ولكن مع هذه الميزات البارزة فإنها تعاني من الآتي :
أولاً : التقسيم القطري : فمنذ سقوط الخلافة العثمانية في تركيا عام 1924م فقدت الأمة الرباط السياسي وتقسمت إلى دويلات قطرية صغيرة منغلقة على نفسها وحلت المواطنة محل الرباط الديني, وفي معظم الأحيان توجد مشاكل بين الدولة وجاراتها من الدول التي تنتمي إلى نفس الدين بل دخلت في حروب استعانت فيها بالأجنبي على ابن العم فاتسعت شقة الخلاف وصار الغريب أقرب من الجار الشقيق الذي تجمعه مع جاره ديانة واحدة وثقافة واحدة وتاريخ مشترك ..
ثانياً : التفاوت الإقتصادي : بعض الدول الإسلامية تصنف من الدول الغنية وبعضها متوسطة الحال وأخرى تعيش تحت خط الفقر , فالفوارق الإقتصادية افرزت فوارق اجتماعية ونفسية قتلت الشعور بالوحدة عند كثير من المسلمين , مع أن الدعوة الإسلامية في الأصل جاءت لتصحيح العقيدة وللتقسيم العادل للثروة , وشنّت حملة كبيرة على المحتكرين والمرابين وأصحاب الكنوز والمانعين الماعون والممتنعين من الحض على طعام المسكين . هذا التفاوت لم يقتصر على الدول بل انسحب حتى على المواطنين في الدولة الواحدة فبعضهم يموتون من التخمة وآخرون يموتون من الجوع وصدق إمام المتقين علي عليه السلام عندما قال : " ما جاع فقير إلا بتخمة غني " ..
ثالثاً : الصراع السياسي : لا تكاد دولة اسلامية تخلو من صراع على السلطة , والصراع والتدافع جبلة بشرية ولكن طبيعة الصراع السياسي في البلدان الإسلامية صراع خشن إلا من رحم الله فالدول الغربية مثلاً حلت هذا الاشكال واهتدت إلى التداول السلمي للسلطة فوفّرت كثيراً من الطاقات والإمكانات والأرواح المهدرة في الصراع من أجل السلطة , ولكن عالمنا الإسلامي في الغالب يخلو من الحاكم السابق الحر الطليق فهو إما في السجن وإما في القبر , وطبيعة الصراع السياسي عندنا تخلو من التسامح فالحكومة لا ترى في المعارضة إلا متآمرة وخائنة ومخربة والمعارضة لا ترى في الحكومة إلا الوجه القبيح المتمثل في البطش والتنكيل والفساد ...الخ
رابعاً : الخلاف : أصبح الخلاف سمة غالبة فهنالك خلاف طائفي وهناك خلاف سياسي وهناك خلاف فكري وهنالك خلافات مذهبية , والخلاف سنة إلهية وضرورة اجتماعية وواقع كوني ولكن طبيعة الخلاف هي التي تفرق بين الخلاف المذموم والإختلاف المحمود , إن الواقع الإسلامي يبين أن معظم الخلافات مذمومة لأن كل صاحب مذهب أوطائفة أو فكر لا يقبل بالآخر ويسعى لاستئصاله , بل انتشرت ظاهرة التكفير التي أصبحت سمة غالبة لخوارج العصرالحديث , فالخلافات داخل الأمة واحدة من عوامل التراجع ..
خامساً : الأطماع الخارجية : تلك العوامل أظهرت الأمة بمظهرالضعف , فقد عجزت أن تحرر القدس أولى القبلتين والحرم الثالث في الإسلام , هذا الضعف أطمع العدو فصار ينفذ سياساته في بلاد المسلمين عبر بلدان وشخصيات مسلمة , وصارت ديار المسلمين ساحة للحروب الدولية بالأصالة والوكالة , وفقدت الأمة شخصيتها الإعتبارية وصار الغرب مبهراً لكثير من الشباب المسلم لأنه يجد عنده ما يفتقده في بلده كالتنمية والحرية واحترام حقوق الانسان ..الخ فهاجر كثيرمن أبناء المسلمين للغرب طلباً للرزق أو فراراً من البطش أو تلبية لحاجة نفسية .
سادساً : الشعار الإسلامي : اختطف من قبل الغلاة والمتطرفين , فالمظالم المشار إليها أصبحت بيئة صالحة لولادة التطرف , واستغل المتطرفون هذا الواقع واندفعوا ينشدون التغيير فشنوا حرباً على الجميع وأعلنوا الجهاد على الكفار فدفعوا بالأمة إلى أتون حرب لم تكن مستعدة لها , وهكذا وجد العدو فرصته ليعلن الحرب على كل المسلمين تحت شعار الحرب على الارهاب , فضاعت قضية المسلمين المركزية ـ احتلال فلسطين ـ وفقدنا أفغانستان , و تحول العراق إلى بـؤرة متفجرة , اختلطت فيها الأوراق : فالارهاب والاستهداف الطائفي والغلو عناصر أدت إلى تشويه مقاومة الاحتلال . ولبنان مهدد بالانجراف , والصومال تمزق , والسودان في طريقه إلى التمزق , هنالك تحالف بين الاستبداد والتطرف وتيارالمحافظين الجدد في أمريكا , هذا التحالف هو المسئول عن الكارثة التي تمر بها أمتنا في الوقت الراهن .
سابعاً : الشعوب الإسلامية لديها وعى كبير يتفوق على قادتها في بعض الأحيان , لأنها ما زالت تتميز بالنقاء ولم تتلوث بأمراض السلطة والثروة , فهي تتطلع إلى استعادة مجدها والإعتزاز بدينها , وقد قدمت سنداً معنوياً كبيراً لحركة المقاومة في فلسطين , ووقفت مع المقاومة اللبنانية حتى انتصرت على العدو الصهيوني انتصاراً كبيراً اعتبرته الشعوب نصراً للأمة كلها وربما خالفت في ذلك بعض نظمها الحاكمة , إن الوحدة الإسلامية تتبلور الآن في وحدة المشاعر والمواقف الشعبية ويمكن أن تتطور إلى وحدة سياسية واقتصادية إذا استصحبت الشعوب وأشركت في القضايا المصيرية ..
المحورالثاني : التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية :
التحدي المعرفي :
تميز الإنسان على المخلوقات الأخرى بالعقل والإرادة والحرية وبالمعرفة الواسعة التي خصّه الله بها قال تعالى : ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿31﴾ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿32﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة :31-33] ومعجزة الرسول الخاتم تتمثل في القرآن الكريم الذي نزلت آياته الأولى مبينة قيمة العلم والمعرفة قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق:1-5] والحضارة الإسلامية تاريخياً قامت على صرح علمي متكامل شمل كل جوانب الحياة وتوفر في ظلها المناخ الذي ساعد في تفجير الطاقات الإنسانية فاكتشفت العلوم وتوسعت المعارف ووضعت المناهج العلمية التي اهتدى بها اللاحقون , غير أنّ هذا العطاء تراجع لعدة عوامل أهمها : أن المناهج السائدة في عالمنا الإسلامي لا تساعد على الإبداع والإبتكار والتجديد فهل من سبيل لإيجاد منهج يتعامل مع القرآن والسنة بأسلوب الإستنطاق كما سمّاه الشهيد سماحة الإمام محمد باقر الصدر , منهج يؤسس لمنظومة معرفية تنطلق من الكتاب المقروء ( القرآن الكريم ) والكتاب المنظور( الكون ) منهج يغرس في المسلم ملكة النقد والمقارنة والإستنتاج العقلي , منهج يواكب حركة التطور التي حدثت في الكون بسبب ثورة الإتصالات والمواصلات وضخ المعلومات بصورة لم يسبق لها مثيل ! إن أول تحد يواجه أمتنا هو التحدي المعرفي ..
التحدي السياسي :
الإسلام جاء ديناً خاتماً للرسالات اشتمل على أصولها وتميّز عليها بالعموم وصلاحية التطبيق عبر الزمان والمكان , وقد اهتم الإسلام بكل شئون الحياة الفردية والمجتمعية وعلى نطاق الدولة وعلاقاتها وكان العهد النبوي وعهد الراشدين يجسد الروح الإسلامية في المجال السياسي , غير أن هذا النهج انقطع بتحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض , فتعطلت الشورى وغاب العدل واضطرب النظام السياسي إلى يومنا هذا , لقد توصل الغرب إلى بلورة فكر سياسي تمخض عنه النظام الديمقراطي وهو نظام يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية والفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة وسيادة الدستور . إنه يشكل تحدياً كبيراُ لأمتنا التي تحفظ شعارات عن النظام السياسي مثل الخلافة ونظام الشورى غير أن هذا النظام لم يتبلور في شكل نموذج متفق عليه من علماء الامة وقادتها ولم يطبق في أرض الواقع لينافس النظم السائدة في الساحة العالمية , مما جعل الرأي العام الإسلامي منقسماً فبعضه يؤيد النظام الملكي وبعضه ينادي بالديمقراطية وبعضه يتطلع للخلافة .. وهكذا . فالتحدي الذي يواجهنا في هذا المجال هو كيف نبلور نظاماً سياسياً يعبر عن مبادئ الإسلام ومقاصده وتعاليمه لتلتف حوله الأمة وتدعو له ؟.
التحدي العلمي :
التطورالعلمي بلغ مبلغاً ليس له مثيل في التاريخ المعلوم , وكان للحضارة الإسلامية قصب السبق في اكتشاف العلوم ووضع مناهج البحث العلمي , غير أن هذا النجاح أصبح من التاريخ , واليوم فإن العالم الإسلامي في مؤخرة الأمم في مجال الانتاج العلمي والتكنولوجي , وإن وجد بعض النشاط العلمي فهو منقول عن الآخرين وليس أصيلاً , لقد تطورت العلوم بصورة مذهلة بعد اكتشاف الذرة والطاقة النووية , ويتحدث العلم الآن عن الجينات والاستنساخ والاحتباس الحراري ونظرية الكون المتمدد وغيرها من التطورات الهائلة في مجالات العلوم فماهو حظ المسلمين من كل ذلك ؟ إن التحدي العلمي الذي يواجه أمتنا لا يستهان به فما العمل ؟
التحدي الاقتصادي :
النشاط الإقتصادي الآن تجاوز المفاهيم التقليدية وظهرت مفاهيم الشركات العابرة للقارات وأسواق الأسهم والتجارة عبر الشبكة العنكبوتية ( الانترنت ) وهي مفاهيم تعكس حجم التطور الذي حدث في الإقتصاد العالمي , غير أن العالم الإسلامي أغلبه يصنف ضمن الدول الفقيرة فكثير من دوله لا تستطيع توفير القوت ولا المياه النقية لشعوبها , واقتصاديات كثير من الدول الإسلامية مرهونة للنظام الاقتصادي الغربي , ومما يستغرب له أن بلداننا غنية بالموارد الطبيعية كالتربة الصالحة للزراعة والمياه العذبة والثروة الحيوانية والغابية والكثافة السكانية ولكنها عاجزة عن استغلالها وتطويرها بسبب سوء الإدارة والرشوة والفساد ..الخ وحتى المصارف التي قامت على النظام الإسلامي لم تشكل بديلاً مصرفياً جاذباً بل صار كثير منها أكثر سوءً من البنوك الربوية , لقد كتب كثير من العلماء عن الإقتصاد الإسلامي والملكية في الشريعة الإسلامية والنظام النقدي وغير ذلك لكن يظل الواقع الإقتصادي عاجزاً عن المنافسة فالتحدي الذي يواجهنا هو كيف نقدم نظرية اقتصادية اسلامية عملية تبلور نظاماً اقتصادياً بديلاً يتناول علم الاقتصاد ويحدد معالم النظام الإقتصادي الإسلامي ويعالج مشكلة الإنتاج والتوزيع العادل للثروة ويحارب الربا والاستغلال والاحتكار..الخ
التحدي الدولي :
عالم اليوم لا نجد له وصفاً في التاريخ , فكتب السير عندنا تتحدث عن نظام دولي ينقسم إلى دولتين هما دولة الإسلام ودولة الكفر , ودولة الكفر إما أن تكون حربية وإما أن تكون داخلة مع المسلمين في عهد , ولكننا اليوم نعيش في عالم مختلف فالنظام العالمي اليوم يقوم على دول قطرية تقوم الحقوق فيها على أساس المواطنة , وقامت فيه منظمة دولية هي الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية المتخصصة وهي مؤسسة يحكمها ميثاق عالمي يهدف إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين , وتضم الأمم المتحدة دولاً تنتمى إلى كل الأديان والثقافات والقارات , وهناك تكتلات إقليمية كالاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي , إضافة إلى تكتلات إقتصادية وأحلاف عسكرية ومنظمات ثقافية , وجمعيات حقوق الانسان .. وغيرها من المؤسسات الدولية التي تتدخل في سيادة الدول وحرية الأفراد بقوة القانون الدولي . إننا أمام هذا التحدي الدولي المعاصر مطالبون ببلورة منهج للتعامل مع هذا الواقع من داخل ديننا حتى نكون متصالحين مع أنفسنا ومع عقيدتنا وقادرين على التعاطي مع واقعنا بإيجابية .
التحدي الوحدوي :
الوحدة الإسلامية تمثل أشواقاً وجدانية وتطبيقاً لأمر إلهي : ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء:92] إن عوامل الوحدة متوفرة عند المسلمين , فالإله واحد والنبي متفق على سيرته منذ ميلاده وحتى وفاته والكتاب متفق عليه والقبلة واحدة والتاريخ مشترك والمستقبل واحد والمشاعر متفقة , غير أنه بالرغم من وجود هذه الموحدات إلا أن البون شاسع بين الدول الإسلامية فالمصالح متناقضة والفوارق كبيرة والحواجز النفسية سميكة , والحدود القطرية صارت مقدسة تحرِم المسلم حتى من الحقوق الإنسانية , إن التناقض بين التطلعات والقدرات , والتباين بين المثال وبين الواقع المعاش , والإختلاف بين المحفوظ وبين المنظور كل ذلك يشكل عبئاً ثقيلاً على العقل الجمعي للأمة , فالتحدي هو كيف تتحقق الوحدة في ظل هذه الأوضاع .؟
المحور الثالث : الحلول والمخارج الممكنة :
القرآن الكريم يعلمنا أن الابتلاءات والامتحانات قدر إلهي يمحص الله بها المسلم ويختبر بها الأمة , فالإنسان خلق ليكدح في الأرض ويبتلى بأمر الاستخلاف الذي عجزت السموات والأرض والجبال عن القيام به قال تعالى : ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب:92] ويخبرنا القرآن أن المسلم لا تزيدة الابتلاءات إلا منعة فهو محصن بالإيمان وبالاستعانة بالله على مصائب الدهر , وأنّ نصره سيتحقق إذا استكمل شروط النصر , وهي شروط استودعت في سنن إلهية لا تحابى ولا تتخلف فمن استوفاها نال مطلوبه ومن تخلف عنها لم يحقق نصراً وإن تمسّح بكل الشعارات والمسميات الإسلامية قال تعالى : ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة:177] وفي عصرنا الحالي فإن الإبتلاء الذي حدث هو ابتلاء للأمة وهو أخطر من ابتلاء الأفراد , لأن الأمة إن لم تنجح في الاختبار سوف تستبدل قال تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿19﴾ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [ابراهيم:19-20] فلكى نخرج من هذه الورطة فإننا مطالبون بالتفكير الجمعي انطلاقاً من الأصل الذي توحد عليه سلفنا واستطاعوا عبره أن يغيروا التاريخ ويحملوا للإنسانية حضارة دينية انسانية تحكمها الأخلاق ويقومها الدين , حضارة استطاعت أن تغير العقل البدوي الذي كان يفتخر بالأنساب ويعتز بالعصبية وتأخذه الحميّة بالحق وبالباطل مثل قول القائل :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
هذه المفاهيم غيرها الإسلام إلى مفاهيم العدل عند الغضب والعفو عند المقدرة والإيثار عند الحاجة , قال تعالى : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾[الأعراف:199] وقال تعالى : ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [النحل:126] وقال تعالى: ﴿... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:9] فالمسلمون بالرغم من ضعفهم الماثل إلا أنهم في الواقع يقفون على أرضية صلبة ويستندون إلى مرجعية أثبتت جدواها في التاريخ فالمطلوب هو مراجعة الأداء الحالي على هدى المرجعية للخروج من هذا المأزق الراهن وذلك بالآتي :
أولاً : نقد الذات : إن مراجعة الأداء وتقييم التجارب ومحاسبة النفس والإعتبار بالتاريخ مفاهيم حثّ عليها الإسلام في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم , لأنها خطوات أساسية في تحسين الأداء , وعوامل فعّالة في إصلاح الحال , قـال تعـالى : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ آل عمران:135] وعاب الإسلام على أولئك الذين يرفضون المراجعة ولا يعترفون بأخطائهم تعالياً واستكباراً قال تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴿204﴾ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴿205﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة:204-206] عليه فإن النقد الذاتي يبصرنا بمواقع الخلل ويعصمنا من الانزلاق في مهاوي الردى , وينمي فينا ملكة التمييز بين الحق والباطل , والتفريق بين الإيجابيات والسلبيات , وإذا طبقنا منهج النقد الذاتي على واقعة من وقائعنا المعاصرة لأدركنا حجم الخطأ الذي وقعنا فيه , وعلى سبيل المثال تعامُلُنا مع الحرب العراقية الإيرانية , فهي حرب وقعت بين دولتين مسلمتين فلو طبقنا المنهج الإسلامي على هذه الواقعة لوجدنا الآتي : قال تعالى : ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[الحجرات:9-10] هذا التوجيه يفيد الآتي :
ـ نشوب قتال بين طائفتين مؤمنتين .
ـ وجوب السعي بينهما بالصلح .
ـ تقصي الحقائق لمعرفة المعتدي في حال تعذر الصلح .
ـ التضامن بين جميع المسلمين لمقاتلة الطائفة الباغية حتى ترجع إلى الحق .
ـ بعد رجوعها مطلوب السعي للصلح بينهما وذلك بإزالة المظالم وإحقاق الحق .
ـ التأكيد على أن الأخوة بين المؤمنين هي الأصل وأن الأحداث العابرة ينبغي أن لا تصرفنا عن الأصل .
وبتطبيق هذا المنهج على تلك الواقعة نجد أننا قد خالفنا المنهج الإسلامي وذلك بالآتي :
بعضنا تخوف من تأثير الثورة الإسلامية في إيران على مصالحه فوقف مسانداً لأحد الطرفين مقدماً المصلحة الذاتية على المصلحة العامة للأمة .
آخرون ساندوا هذا الطرف ضد الطرف الآخر محكومين بالعصبية .
وآخرون دعموا الحرب خدمة لأجندة خارجية تضررت مصالحها بقيام الثورة الإسلامية في إيران .
والذين دعوا إلى تطبيق المنهج الإسلامي لم يلتفت إليهم أحد .
وهكذا فإن التعامل الخاطئ مع هذه الواقعة جاء بنتائج عكسية فلا المصالح الذاتية تحققت , ولا الثورة احتويت , والأجندة الخارجية سقطت , وحامي المصالح الإقليمية والدولية انقلب على مسانديه الإقليميين والدوليين , ووقعت المنطقة كلها ضحية للعدوان والإحتلال وصدق الله سبحانه وتعالى حيث يقول : ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴿124﴾ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ﴿125﴾ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴿126﴾ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه:124-127] إن اتباع الحق هو النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته القضائية لأبي موسى الأشعري : " ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت لرشدك , أن ترجع إلى الحق فإن الحق لا يبطله شئ واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل " إننا بالنقد الذاتي نصحح أخطاءنا ونصوب مسيرتنا ونستمطر رحمة الله التي هي قريب من المحسنين .
ثانياً : بلورة منهج جديد للتفكير : لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤسس العقلية الإسلامية في الصدر الأول على هدى القرآن الكريم والسنة المطهرة فقام عند المسلمين تصور واضح للوجود ولوظيفة الإستخلاف وللكون والحياة والمصير , فلم يحتاروا في تعاملهم مع الواقع بل استطاعوا أن ينقلوه إلى الأفضل بالسلم والإقتناع , لقد تآكل هذا التصور مع مرور الزمن وتعطل العقل الجمعي عن الإنتاج والإبتكار , وصار الفكر في الغالب جامداً في مرحلة تاريخية معينة , يجتر حوادث التاريخ ويبرر الواقع الظالم الذي لا يستطيع تغييره . نحن محتاجون لبلورة منهج جديد يوفق بين الأصالة والمعاصرة , ويجعل الفكر قادراً على التجديد والمواكبة والتحصين من الذوبان , إن عالمنا الإسلامي اليوم متنازع بين الأفكار , ففي ظل الهيمنة الغربية وتأثيرها على الواقع البشري برزت ثلاثة اتجاهات : الإتجاه الأول : يدعو إلى التحرر من الإسلام أو على الأقل حصره في الجانب الشخصي وتبنّي المنهج الغربي لأنه أثبت جدواه عندما تحرر من سلطان الكنيسة فحقق التقدم الحالي. والإتجاه الثاني : يرفض التعامل مع الحضارة الغربية في أي صورة من صورها ويدعو إلى الإنكفاء على الذات والإبتعاد عن أي عطاء انساني يأتي من الآخر. والإتجاه الثالث : يدعو إلى منهج وسط يرتكز على العقيدة ويستصحب اجتهادات السلف التي توافق ظروفنا ولا يتحرج من الإقتباس من الآخر . ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم قد أشار إلى تلك المناهج وبين حقها من باطلها , فقال عن منهج التبعية : ﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ [ابراهيم:26] وعن منهج التقليد دون تمييز قال : ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴿23﴾ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [الزخرف:23- 24] وقال : ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة:141] وأما المنهج التجديدي الملتزم بالأصل مع مواكبة العصر فقال عنه : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ﴿24﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ابراهيم:24-25] إن المنهج الثالث هو الذي ينبغي أن نتبنّاه وهو منهج يقوم على قطعيات الورود والدلالة , والتمييز بين الثابت والمتغير في الأحكام , ويأخذ بالحكمة ولا يضيره من أي وعاء خرجت , يقول السيد محمد باقر الصدر عن هذا المنهج إنه يجرى " عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له , وليست مجرد استجابة سلبية , بل استجابة فعالة وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى" وهو نفس النهج الذي سار عليه السلف فاهتدوا إلى الصراط المستقيم قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : " ذلك القرآن فاستنطقوه , ولن ينطق , ولكن أخبركم عنه , ألا ان فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي , ودواء دائكم , ونظم ما بينكم " إن هذا المنهج يجمع ولا يفرق ويوحد ولا يمزق إنه المنهج الذي سار عليه سلفنا فحافظوا على وحدة الكلمة مع تنوع الاجتهادات .
ثالثاً : قراءة التاريخ بمنهج تمييزي : التاريخ يلقى بظلاله على الحاضر لأن السلوك البشري ينطلق من خلفيات ثقافية وعقدية واجتماعية وهي تمثل ماضي وحاضر الإنسان , لقد وقعت في تاريخنا أحداث كثيرة أثرت على مسيرة الحياة وما يعنينا في هذا المجال هو الصراع التاريخي بين الفرق الإسلامية : السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة والظاهرية والصوفية..الخ هذا الصراع له أسبابه ودوافعه ومبرراته التاريخية ولكنه ظل حاضراً في كل خلافاتنا المعاصرة إن " أهم جدليات الاختلافات الفكروية : جدلية الظاهر والباطن ـ والنقلي والعقلي ـ والسنة والشيعة . الجدليتان الأوليتان أدتا لنشأة فرق ومدارس كثيرة وستتكاثر اجتهاداتها مع الحرية . ولكن الثالثة مصدر تفرق اختلط بصراع السلطة والسياسة ، وببدايته أدى لأوائل المعارك التي فرقت كلمة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهم جميعاً ، وأورثت فتنة ما زالت قابلة للاشتعال " ومما لا ريب فيه أن الصراع السني الشيعي تطورمن خلاف سياسي إلى خلاف فكري أدّى إلى حرب بين الطرفين واضطهاد متبادل فـ" الدول التي غلب عليها السنة اضطهدت مواطنيها الشيعة ، والعكس صحيح . وكانت العلاقة بينهما قائمة على التنافر والتخوين والتكفير ، تنافر في الكيانات والدول استقر على توازن بارد حيناً وساخن أحياناً " هذه الأحداث التاريخية ذهب أبطالها وغاب مسرحها فلا يجوز اسقاطها على الواقع المعاصر , لقد حدثت تطورات كبيرة أدت إلى تقارب بين الطرفين , والذي ينبغي أن ندركه أن الشيعة اليوم ليسوا هم شيعة الأمس ولا السنة اليوم هم سنة الأمس , فقد حدثت مراجعات كبيرة عند الطرفين , إن هنالك سلوكيات ومواقف مستفزة علينا تجنبها مثل : الحديث عن الروافض , وسب الصحابة , والاساءة إلى الشيخين ( أبي بكر وعمر ) إلى غير ذلك من المواقف التي تفرق ولا تجمع . إن تجاوز صراعات الماضي وطي صفحته يفتح الطريق إلى الوحدة .
رابعاً : الوعي بالواقع : معلوم أن الفقه يتمثل في معرفة الأحكام والأشخاص والوقائع والإحاطة بالواقع الذي تطبق فيه , وواقعنا اليوم تعرض له المحور الأول من هذه الورقة إضافة إلى ذلك فإن هنالك تغيرات طرأت على سلوك كثير من المسلمين في حياتهم وعلاقاتهم بسبب التطورات التي استجدت في عالم اليوم , إن التقارب الذي حدث في دنيا البشر جعل العالم متداخلاً ومتأثراً ببعضه بعضاً , فوسائل الإعلام تنقل إلينا أنماطاً متعددة من أساليب الحياة والسلوكيات والأفكار بصورة لها تأثيرها المباشر على حياتنا , ووسائل المواصلات تنقلنا إلى كل أنحاء العالم وهكذا بفعل التأثير المتبادل تعددت المطالب وتنوعت الضروريات وتبدلت القيم , علينا ونحن نتطلع إلى الوحدة أن ندرك الآتي :
أن المصالح مقدمة على المبادئ والقيم في عالم اليوم والشواهد أكثر من أن تحصى والمسلمون تأثروا بهذا الأمر , ونخطئ إذا توقعنا موقفاً مشابهاً لموقف الأنصار عندما آثروا إخوتهم المهاجرين على أنفسهم فقاسموهم الدار والأموال والزوجات , بل إن الذين تعرضوا للنكبات من المسلمين في وقتنا الحاضر لم يجدوا من إخوتهم حق الجوار ناهيك عن حق المسلم والشواهد كثيرة في الصومال ودارفوروحتى فلسطين ولبنان والعراق فإن ما يقدم لهم لا يصنف بأنه تكافل وتضامن بين أبناء الملة الواحدة الذين يوجب دينهم بإنفاق الفضل من الظهر والمال والدار .
المجتمع الغربي بكل مساوئه صار جاذباً لكثيرمن المسلمين , فعدد الذين يطلبون الهجرة إلى الغرب من المسلمين أكثر من طالبي الهجرة إلى بلدان اسلامية , لأن الحرية والكرامة وكفالة حقوق الإنسان التي يجدها المسلم في الغرب لا يجدها في بلده بالرغم من مظاهر الكراهية التي ظهرت في بعض البلدان الغربية ضد الإسلام مثل : الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنع الحجاب واتهامات البابا . مع كل ذلك يظل الغرب في الجوانب الانسانية متقدماً على العالم الإسلامي .
القنوات الفضائية المتخصصة في الغناء والرقص والميوعة في عالمنا الإسلامي أكثر من تلك التي تتناول قضايا فكرية ودينية وإخبارية ! والمراقب يدرك دون أي شك أن رواد الأولى أكثر من رواد الثانية وجلهم من الشباب الذين يفترض أنهم سيكونون قادة المستقبل .
عوامل الإحباط فرخت نهجين سيطرا على الساحة الشعبية الإسلامية نهج التطرف والغلو , ونهج الإنحلال واللامبالاة واتباع الهوى , وروادهما أكثر من رواد النهج الملتزم المستقيم .
الخطاب الديني الحالي لا يمتلك أدوات التغيير لأنه منفصل عن الواقع ولا يخاطب قضاياه بصورة إيجابية فهو إما متمرد على الأوضاع يخاطبها بلغة الغلاة , وإما مدجن يبرر الواقع ويدعو للصبر عليه حتى يأتي الفرج , ولذلك انصرف كثير من الشباب عنه لارتياد مواقع يشبعون فيها حاجاتهم .
هذا الواقع يحتاج إلى تشخيص من خبراء يحددون العلل كما هي دون تلوين ويصفون العلاج الناجع, معرفة الواقع خطوة أساسية للاصلاح وبالتالي لرسم معالم الوحدة الإسلامية .
خامساً : ترسيخ فقه الأولويات والكليات والمقاصد : إن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تؤكد أن هنالك أولويات يجب اتباعها , وإلا سيكون النشاط غيرمثمر مثله مثل نهج الذين قال الله عنهم : ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴿2﴾ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴿3﴾ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ﴾ [الغاشية:2-4] فالدعوة الإسلامية من خصائصها التدرج والمرونة ورفع الحرج , ولكن مع عجز العلماء عن الأخذ بزمام المبادرة في كثير من البلدان تصدى للنشاط الدعوي من لا فقه لهم فأوقعوا الأمة في مأزق , وصار الرأي العام يوجهه أصحاب الشعارات لا العلماء , والعامة معذورون لأنهم لا يرون من علمائهم إلا عجزاً أو تبريراً للأوضاع وصدق إمام المتقين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه حينما قال : " الناس ثلاثة : عالم رباني ؛ ومتعلم على سبيل نجاة ؛ وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق , يميلون حيث تميل الريح " في ظل هذه الأوضاع اختلت المفاهيم وضاع فقه الأولويات , فقدمت الجزئيات على الكليات , والفضائل على الفرائض , وجعلت الصغائر كبائر , لابد من تكاتف الجهود لتصحيح هذه الأوضاع , إن فقه الأولويات فقه أصيل في الشريعة الإسلامية يؤكده نهج التدرج الذي اتبعه الإسلام في تنزيل الأحكام , عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذاً قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله , فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة , فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم , فإن هم أطاعوا لذلك , فإياك وكرائم أموالهم , واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " إن مراعاة الأولويات في الدعوة تضيق الشقة بين المسلمين وتخرج الخطاب الإسلامي من المأزق الذي أوقعه فيه الغلاة وصغارالعقول ومن ثم تكون معالم الوحدة أوضح لأن المشترك بين المسلمين يتمثل في الكليات والمقاصد والمبادئ التي لا خلاف عليها , وتختلف الأولويات حسب الحال والبيئة لكل عصر ومصر وظرف ..
سادساً : إزالة المظالم المفرخة للآزمات : ربط الإسلام بين التوحيد والعدل , وشدد على مبدأ المساواة ، وحث على رفع المظالم وإعطاء الحقوق لأصحابها , لقد وقعت مظالم كثيرة في عالمنا الإسلامي أدت إلى تفرق الكلمة وذهاب الريح , وهي تشكل عقبة كأداء أمام وحدة الأمة فالواجب إزالتها , لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب . والمظالم المعنية كثيرة أهمها :
المظالم السياسية وهي تتمثل في غياب الشورى والمشاركة والعدالة وهي مبادئ أدى غيابها إلى سيادة النظم الشمولية القائمة على التغلب والقهر , فولدت العنف والعنف المضاد مما أدى إلى تفرق كلمة الأمة وإهدار حقوقها وإسالة دمائها.
المظالم الإجتماعية وهي تتمثل في غياب التكافل والتراحم والتعاون بين أبناء الأمة واهدار حقوق المسلم التي حثّ عليها الإسلام .
المظالم الاقتصادية وتظهر في عدم توفير الضرورات الحياتية للانسان واحتكار الثروات لفئات قليلة توظفها لشهواتها ونزواتهاعلى حد قول القرآن الكريم : ﴿... وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾[الحج:45] .
مظالم فكرية : وهي تتمثل في الغاء الآخر وتكفيره وعدم الاعتراف بحقه في الاجتهاد , واستعمال العنف ضده إذا جاء برأي مخالف .
إن وجود هذه المظالم وغيرها يولد الحقد والحسد ويؤدي إلى التقاطع والتدابر ومن ثم يتطور الأمر إلى التكفير وإهدار الدماء , وبالتالي تجد الأمة نفسها في نزاع وخصام .
سابعاً : انشاء آلية أممية للإجتهاد والتنسيق وفض النزاعات : المجهودات التي بذلت في المجال الفكري النظري المتعلق بشأن الوحدة الإسلامية كبيرة , وآن الأوان لخطوات عملية في طريق هذه الوحدة والآليات التي أقترحها تتمثل في الآتي :
آلية للإجتهاد : تضم أهل الإختصاص من كل الفرق والجماعات الإسلامية لتتولى البحث في التراث الإسلامي والفكر الانساني والعلوم والمعارف الحديثة يناط بها الاجتهاد المؤسسي الذي يخرجنا من المفاهيم الفردية والنزعات الذاتية .
آلية لفض النزاعات بين الدول والجماعات الإسلامية : تتكون من حكماء وخبراء وقادة سياسيين ودينيين وعلماء تتولى التصدي لأي نزاع ينشأ بين الدول والجماعات الإسلامية .
آلية للتنسيق والمتابعة : يوكل إليها تجميع الأفكارالتي تشكل قاسماً مشتركاً بين الجماعات الإسلامية , وتقوم بالتنسيق بين الجماعات وتنظيم أنشطة مشتركة تأهيلية وتدريبية ودعوية تحقق الوحدة بالإحتكاك والممارسة .
ـ الخاتمة ـ
إن وحدة المسلمين قريبة وبعيدة في آن معاً . فإذا نظرنا إلى الواقع بتعقيداته واحباطاته وتحدياته , فإنه ينبئنا عن استحالة الوحدة , وإذ رجعنا للمصادر الأصلية للإسلام ـ القرآن والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ واستصحبنا تطلعات ومشاعر غالبية المسلمين , مع الأخذ في الاعتبار فشل التجارب والنظم الوافدة لأدركنا أن الوحدة أقرب إلينا من حبل الوريد , ولكن هنالك شروط ينبغي توافرها منها : الاقبال على الله سبحانه وتعالى باخلاص وخضوع والاستعانة به في كل الخطوات والتخلي عن الذنوب والآثام والتحلي بالفضائل وأخلاق الربانيين والاقتباس من هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة , إضافة لما ورد في الورقة من تحليل ووصف ومقترحات وما يقدمه الآخرون في أوراقهم من أفكار وآراء ومقترحات , فإن الهدف سيتحقق وصدق المولى سبحانه وتعالى إذ يقول :
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء:105]
وأشكر في ختام هذه الكلمة الجهات المنظمة لهذا المؤتمر ودعوتها لنا للتفاكر حول هذا الموضوع الهام الذي يشغل بال الأمة ويثقل كاهلها , والشكر لجمهورية إيران الإسلامية على استضافتها لهذا المؤتمر فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران عرف الفكر الانساني أسلوباً جديداً في التعاطي مع قضايا المسلمين فهي حقاً ثورة المستضعفين . ولا يفوتني في هذا المقام أن أترحّم على روح مفجرها الإمام آية الله الخميني طيب الله ثراه ,
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق