الأربعاء، 30 ديسمبر 2009

إستقلال السودان بين الإدعاء والجحود!
بقلم / الزبير محمد علي
صحيفة صوت الأمة السودانية - الخميس 31/12/2009
نتنسم هذه الأيام شذي ذكريات إستقلال السودان المجيد، إننا بحاجة إلي هذه النفحات التاريخية حفظاً وتحصيناً لسوداننا الحبيب من براثن التفكك والانهيار.
لقد إعتاد البعض أن يكتب عن الإستقلال بصورة تقليدية، فهو لا يجهد نفسه أكثر من نقل الأحداث من ثنايا الكتب والمذكرات التاريخية .
نحن لسنا بصدد تقييم كتابات الآخرين فلكل كاتب إسلوبه الخاص ، ولكننا أحوج ما نكون إلي تناول الأحداث التاريخية في قوالب جديدة لأن التكرار يات بالملل .
لقد تأملت بحثاً عن الإسلوب الأفضل تناوله لذلك الحدث فلم أجد أجمل وأوفي من حماية الإستقلال من ظاهرتين موجودتين في الوسط الإعلامي :
الأولي : ظاهرة المدَعين لذلك الإنجاز العظيم من غير حق، وإن كان لهؤلاء حق فهو لا يتعدي ضرب الكيتة !علي حد تعبير الأنصاري.
الثانية: ظاهرة الجاحدين الذين ينظرون إلي الأحداث التاريخية بنظارة أكثر سواداً، فإستقلال السودان عندهم هو إستبدال للإستعمار الإنجليزي بإستعمار آخر إسلاموعروبي .
والمؤسف أن التلفزيون القومي هذه الآيام يصَور أصحاب الظاهرة الأولي كأنهم أبطال الإستقلال بينما لا نجد أثراً للذين " قطعوا شجرتا وقتلوا دبيبتا ".
لماذا يحدث ذلك ؟ لماذا يغض الإعلام الرسمي في الحقب الشمولية الطرف عن الأبطال الحقيقيين للإستقلال ؟ أهو الجهل بهؤلاء الأبطال ؟ أم هو العمل من أجل تغيير ذاكرة الأجيال ؟
إن الذي يجب أن يُزجع الكثيرين هو أن الأجيال الجديدة لا تعرف شيئاً عن الأبطال الحقيقيين الذين حققوا الإستقلال بل المُزيَفين، وهم معذرون في ذلك إذا كانت المناهج الدراسية التي يدرسونها تصَور لهم التاريخ بعيون حولاء.
لقد تناقشنا من قبل في منابر النقاش في الجامعات فكانت لغة المدعَين دائماً أن الذي حقق الإستقلال هو الحزب الإتحادي الديمقراطي برئاسة أزهري .
قلنا : وهل أزهري هو من رفع شعار السودان للسودانيين ؟
قالوا: أزهري رفع شعار الوحدة مع مصر ولم يكن ذلك هدفاً بالنسبة له ، بل وسيلة لكسب تضامن الموقف المصري تمهيداً لإخراج المستعمر .
قلنا: هل تظنَون أن رؤوسنا بها قنابير! ؛ إذا كانت مصر هي من مهَد لبريطانيا إستعمار السودان ، فهل تستطيع أن تناضل من أجل إخراجهم ؟
قالوا: ولكن الموقف المصري تغير بعد ثورة 1919 ، فقد كان الضباط والموظفون المصريون يبثون الروح المعنوية لدي الجنود السودانيين؛ وهذا مؤشر لوقوفهم ضد الإنجليز .
قلنا: نعم لقد تغير الموقف المصري بعد ثورة 1919تغيراً جُزئيا، ولكن في المقابل أليست مصر هي من تخلت عن مسؤليتها تجاه جمعية اللواء الأبيض في عام 1924 ؟ في الوقت الذي إلتزمت فيه بدعمهم .
إن موقف مصر المتخاذل إزاء ثورة 1924 بعد مقتل السيرلي ستاك في مصر، هو الذي جعل بعض المؤمنين بالوحدة يكفرون بها في وقتٍ مبكر.
لقد كان الشاعر العبادي مؤمناً بالوحدة مع مصر حتي النخاع، فلمَا أنسحب الجيش المصري بعد تهديدات الإنجليز التي أعقبت مقتل السير لي ستاك، كفر بالوحدة المزعومة وأنشد الأبيات التالية :
حواة النيل حديثكم كان سمر وادينا
بيحيا ويعيش أحمد فؤاد نادينا
حبل الوحدة مديتوا وكت شدينا
فكيتوا لقينا الدابي في إيدينا
لقد كان هذا الموقف كافياً لإقناع تيار الوحدة مع مصر في وقتٍ مبكر بأن مصر لا تستطيع أن تُقدم شيئاً للسودانيين إلا مقابل الوحدة تحت التاج المصري.
ثم إذا كنتم صادقون في دعوتكم إلي الإستقلال كموقف مبدئي؛ فما الذي أدي إذاً إلي إنشقاق مؤتمر الخريجين ؟
أليس السبب في ذلك مذكرة المؤتمر التي طالبت بالحكم الذاتي ؟
إن موقف الإتحاديين إزاء دعم مشروع الوحدة مع مصر لا يحتاج إلي أدلة، فقد عمل هؤلاء طوال حياتهم السياسية قبل الإستقلال من أجل ذلك المشروع بكل إخلاص وعزيمة!، وليس هنالك ما يُبرر تنصل البعض منهم عن هذا الموقف .
صحيح أن تيار الوحدة مع مصر تبني مؤخراً شعار الإستقلال، ولكن لم يحدث ذلك إلا في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي عندما حدث التقارب بين الأنصار والختمية، وأتفقتا علي طرح فكرة تقرير المصير في الأمم المتحدة.
قالوا: إذا لم يكن شعارالإستقلال مبدئياً لدينا فما الذي جعلنا نوافق عليه؟
قلنا: إن تبني شعار الإستقلال من قبل تيار الوحدة مع مصر فرضته ظروف التنافس يبن الختمية والإتحاديين، وعززته تغير القيادة المصرية بعد ثورة يوليو، وعمَقته بصورة أكبر قوة وشراسة التيار الإستقلالي بقيادة حزب الأمة.
سُئل أحد الإتحاديين في ورشة فكرية عن معني الوطنية ؟ فقال : الوطنية تعني أن تحب بلدك كما يحب المصريون بلدهم!.
فيا أولاد ماما مصر! لما تقولون ما لا تفعلون، تتبنون مواقف الخصم بعدما تلعنوها وتنسبونها إليكم !.
إن إيثار الإمام عبد الرحمن والاستقلاليين ووطنيتهم الزائدة هي التي أدت إلي نمو صيحات المدعَين للإستقلال بغير وجه حق .
وفي إتجاه آخر قال البعض إن السودان لم يحقق إستقلاله إلا بعد عام 2005 ؟
قلنا: فما الذي حدث إذاً في يوم 19/12/1955 ؟ وما جدوي الإحتفال بيوم 1/1/1956 ؟
قالوا: إنه إستبدال للإستعمار الإنجليزي بإستعمار آخر إسلاموعروبي !
قلنا: فلنتفق إذاً علي منهج تحليلي للتاريخ، هل من الصواب إختياركم لمنهج تحليل يقَيم الأحداث التي حصلت في منتصف القرن العشرين بعقلية جيل القرن الواحد وعشرين ؟ ولنطرح السؤال بشكل أكثر وضوحاً، هل كان رأي نواب الجنوب في برلمان الإستقلال أن الحكم الذاتي هو إستبدال للإستعمار الإنجليزي بإستعمار آخر إسلاموعروبي ؟ نسأل هذه الأسئلة لأن التحليل يجب أن يراعي تبدل الحال، وتغير الأجيال.
لقد أدلي نواب الجنوب بآرأئهم في برلمان الأستقلال قال فيلمن مجوك النائب عن دائرة يرول (إن إقتراح الحكم الذاتي سيفتح صفحةً جديدة في تاريخ السودان الحديث) وذكر السيد بوث ديو – نائب عن دائرة وادي الزراف – قوله ( نحن السودانيين سنضرب الآن آخر مسمار في نعش السيطرة الأجنبية ) وأضاف قائلاً ( إن الأقطار المجاورة قد تطمع في إعادة ما فعلناه ).
إذا قولكم مردود بشهادة نواب الجنوب في برلمان الإستقلال.
قالوا: إن أكبر دليل علي صدق موقفنا هو التمرد الذي قامت به حامية الإستوائية في أغسطس عام 1955.
قلنا: ولكن تمرد توريت لم يكن سببه ما ذهبتم إليه من تحليل ، فحامية الإستوائية كانت مُعدة أصلاً للنقل إلي الخرطوم للمشاركة في العرض العسكري الخاص بإحتفالات جلاء القوات الأجنبية.
إن الذي روج لمقولة ( أن الإستقلال يُفضي إلي إستعمار الشمال للجنوب ) هم الأنجليز؛ حيث سخَروا طاقاتهم من أجل وضع المتاريس في طريق الوحدة بين الشمال والجنوب.
وهذا ما توصل إليه تقرير اللجنة القضائية الخاصة بالتحقيق في أحداث توريت برئاسة القاضي الفلسطيني توفيق قطران.
لقد أوضح التقرير أن هدف السياسة الإستعمارية في الجنوب هي إنشاء سلسلة من الوحدات القبلية والعرقية القائمة بذاتها،علي أن يكون قوام النظام فيها مرتكزاً علي العادات والتقاليد والمعتقدات، وقد شددت تلك السياسة علي أهمية الرقابة علي هجرة التجار الشماليين إلي الجنوب، كما وُجهت تعليمات إلي الموظفين بضرورة التخاطب باللغة الإنجليزية عندما ينعدم التفاهم باللغات المحلية.
وقد ترتب علي تنفيذ هذه السياسة عملياً - بحسب التقرير- الأتي :
1 ـ نقل جميع الموظفين الشماليين الذين كانوا يعملون بالجنوب من اداريين وفنيين وكتبة للشمال.
2 ـ حرمان التجار الشماليين الذين كانوا بالجنوب من رخص مزاولة تجارتهم.
3 ـ اجلاء المسلمين الشماليين من مواطنهم وترحيلهم للشمال.
4 ـ منع إنتشارالديانة الاسلامية.
5 ـ الغاء تدريس اللغة العربية كمادة في المدارس.
فيا دعاة السودان الجديد إقرءوا التاريخ بعقول مفتوحة دون أن يكون لديكم رأياً مسبقاً فيه، ودون صبغ قرءاتكم بلونٍ أيدلوجي، ودون النظر إلي الاحداث بنظارة أفروعلمانية.
إن إدانتنا لهذا النوع من التحليل ينبع من كون وقوفه عائقاً في طريق الوحدة بين الشمال والجنوب، مثلما يقف مشروع الإنقاذ الخفي الذي يقوده الطيب مصطفي – صاحب الغفلة في زمن الإنتباهة!- في وجه كل من يحلم بوحدة تراب هذا الوطن.
فمثلما ترددون أنكم لا تريدون الوحدة تحت شروط الصفوة الإسلاموعروبية – وهذا حقكم – فنحن بدورنا أيضاً نرفض أي محاولة لتبديل الهوية السودانية بهوية أفروعلمانية وتحليلكم هذا هو مقدمة لتلك الهوية الجديدة.
وأحسب أن هذا الطرح الذي أوردته له مؤيدون من النخبة الجنوبية وله رافضون، كما أن إستمرار الوحدة تحت شروط الصفوة الإسلاموعروبية – كما يسميها البعض – لها أيضاً مؤيدون في الشمال وهم الغافلون في زمن الإنتباهة! ولها رافضون وهم تيار السودان العريض.
إن تسليم الساحة الفكرية لتياري الهيمنة ( الإسلاموعروبية – والأفروعلمانية ) سوف يجعل وحدة السودان في خبر كان!.
ولتجنب ذلك لابد من إحداث نقلة سياسية تهمَش دور هؤلاء، وتُحدث تحالفاً بين دعاة السودان العريض والعقلاء من النخبة الجنوبية.
وهنا ياتي دور تحالف جوبا للقيام بهذه المهمة، لاجرم أن الشماليين والجنوبيين الآن أصبحوا في خندقٍ واحد.
فإذا إستطعنا القيام بهذه المهمة نكون قد أوفينا بذمتنا للأجيال القادمة، وحفظنا وصية الأجيال السابقة الذين فتئوا يؤكدون:
جدودنا زمان وصونا على الوطن
على التراب الغالي الما ليهو تمن
نحن حافظين للوصية
جوه في قلوبنا الوفية
ذكراهم بتلهمناوتشجينا بعزيمة قوية
وإذا فشلنا في تحقيقه فقد خُنَا وصية الأجداد وأستحقينا لعنة الأجيال القادمة.

الجمعة، 25 ديسمبر 2009


العنف ضد المرأة ، وبعض المسكوت عنه !
بقلم / الزبير محمد علي
صحيفة صوت الأمة السودانية
دعتني الأستاذة أم سلمة الصادق إلي حضور الندوة التي حملت عنوان (العنف ضد المرأة) والتي أقيمت في قاعة اتحاد المصارف في يوم الأربعاء الموافق التاسع من ديسمبر من هذا العام.
لقد كانت أمنيتي أن أكون ضمن الحضور ؛ ذلك أن الندوة حملت عنواناً حساساً
يحتاج من الجميع المساهمة لتجفيف منابع الإعتداء علي حواء.
ولكن لظروف قاهرة لم أتمكن من الحضور ؛ لذلك رأيت أن أعوض غيابي عن الندوة بتناول هذا الموضوع في خُطبة الجمعة وقد كان.
وفي تصوري أن خُطبة الجمعة لها تاثير عميق في نفوس المصليين ؛ ذلك أنها تمثل حلقة إتصال مباشر مع الناس وبصورة دورية.
ولكن كما يعلم القارئ أن تناول قضايا المرأة في مساجد شعبية يُعد من البدع إلا إذا تحدث الخطيب عن المرأة برؤية سلفية.
وأذكر أنني قبل عامين عزمت الحديث عن ظاهرة ختان الإناث ، فسألني أحد المقربين عن موضوع الخُطبة . قلت له – وليتني لم أقل – ( أنني عزمت التحدث في موضوع ختان الإناث ) فزجرني قائلاً : " يا ولد إنت قليل أدب ولا شنو !، داير الناس يقولوا مراهق جديد! ).
والمدهش أنه أستاذ وداعية إسلامي ، ولكن مع ذلك ترأه متأثراً بالموجة العامة للمجتمع تحت شعار " هذه قضايا مسكوت عنها"!.
ولكن في قاموسنا الإسلامي لا توجد قضايا مسكوت عنها ، فتعاليم الإسلام شملت حتي أدب النكاح! ولم يستح نبي الرحمة صلي الله عليه وسلم ولا أم المؤمنين عائشة عن الخوض فيها.
ولكن لندع كل هذا جانباً حتي لا ننصرف عن موضوعنا الأساسي ؛ فإن أول مدخل للحديث عن ظاهرة العنف ضد المرأة هو أنها ظاهرة لا تخص مجتمعاً محدداً ، ولا ثقافةً بعينها ؛ وإنما هي ظاهرة عامة في كل المجتمعات المدنية والريفية ، الغنية والفقيرة وإليك بيان ذلك :
- في الشرق الأوسط 47% من النساء في الأردن يتعرضن للضرب بصورة دائمة.
- في الشرق الأقصي 8 من 10 نساء في الهند هنَ ضحايا للعنف .
- في أفريقيا تتعرض يومياً 1411 من النساء في جنوب أفريقيا للإغتصاب.
- في أوربا 95% من النساء في فرنسا هنَ ضحايا للعنف.
- في الولايات المتحدة 85% من النساء هنَ ضحايا العنف المنزلي.
إذاً العنف هو سلوك عدواني غير مرتبط بجغرافيا أو إيديولوجيا ، وقد عرَف قرار الأمم المتحدة 54/143( أن العنف ضد المرأة هو مظهر لعلاقات قوي غير متكافئة بين الرجل والمرأة عبر التاريخ أدت إلي هيمنة الرجل علي المرأة ، وممارسته التمييز ضدها والحيلولة دون نهوضها بالكامل ، وأن العنف ضد المرأة هو من الأليات الإجتماعية التي تُفرض بها علي المرأة وضعية التبعية للرجل).
إنها كارثة عصرية توجب التصدي لها بكافة الوسائل المتاحة من إعلام ، ومناهج تعليمية ، وتشريع قانوني ، وغيرها من الوسائل . ولكي نجد الروشتة العلاجية المناسبة لابد من تحديد مظاهر العنف ضد المرأة في مجتمعنا السوداني وهي كالأتي :
المظهر الأول : العنف الجنسي ويشمل الإغتصاب والتحرش ، وإكراه المرأة علي الفراش وقد تحدث تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن دارفور لعام 2009 صراحةً عن تلقَي البعثة لبلاغات عن أحداث عنف جنسي في دارفور.
إن الحروب تشكل مناخاً مهيئاً لحالات العنف ضد المرأة ، ودوننا جمهورية الكنغو التي شاع فيها الإغتصاب الجماعي لدرجة جعلت الأطباء يتحدثون عن ما يسمي " بالتدمير المهبلي للمرأة " .
وفي سياقٍ آخر تحدثت بعض التقارير عن نسبة قد تصل 83% من النساء في المجتمعات التقليدية يتعرضَن للإغتصاب ، ولأن التبليغ عن مثل هذه الحالات في المجتمع الريفي يُعد نوعاً من العار ؛ فإنها تُخمد في مهدها ولا تصل إلي الفضاء الإعلامي .
وظهرت لدينا مؤخراً في الجامعات السودانية حالات إعتداء وصلت إلي حد القتل - بسبب شاكوش عاطفي!- كما حدث في كلية الصحة بجامعة الخرطوم .
المظهر الثاني : الختان ، وأحسبه من أفظع أنواع العنف ضد المرأة وقد ذكرت لي بعض الأخوات أنهن يمارسن الجماع مع أزواجهن لسببين :
أولاً : لعدم سخط الله سبحانه وتعالي عليهن إذا رفضنَ الجماع .
ثانياً : لإنجاب الأبناء.
إن حديثاً مثل هذا من شأنه أن يجعل حياة الزوجين جحيماً وليست حياة الزوجة وحدها ؛ ذلك أنه سيكون نكاحاً بين إنسان له شعور ، وإنسان أشبه بالجماد! ؛ وهذا سيؤثر تأثيراً نفسياً علي مستقبل العلاقة بينهما .
كما أن الختان له مخاطر جمة علي الصحة الإنجابية للمرأة . إن الذي يقارن الصحة الإنجابية بين السودان وبلاد الشام - وهي لا تستخدم الختان - يجد بوناً شاسعاً بينهما.
المظهر الثالث : ضرب الزوجات . إن الذي يضرب زوجته ينطلق غالباً من منطقين :
الأول : أن المرأة خُلقت لإشباع رغباته الذاتية ، وراحته النفسية - من إتجاه واحد - وعليه إذا حدث أي تقصير وفقاً لرؤيته ؛ فإن المسكينة جزاها أم كف ! . وقد ذكر أحد أصحاب الأحذية أن أمرأة طلبت من زوجها أن يشتري لها حذاءاً ، فذهبا معاً إلي مكان الأحذية . فقال الزوج : إعطنا الحذاء الفلاني . فرفضت الزوجة ذلك الحذاء وبررت رفضها بأنها تُريد حذاءاً له كعب ، فلما أشتد النقاش بين الزوجين في مكان الأحذية تدخل صاحب المحل وقال للزوج : نفَذ لزوجتك رغبتها . فرد عليه الزوج قائلاً : أصمت هو إنت الحاتنضربيهوا!.
الثاني : أن البعض يلتمس تفسيراً دينياً للضرب كوسيلة للتأديب ، وعجبت لشخص في قامة د/ حسن الترابي أن يقول : ( ليس للرجل فيها – أي الحياة الزوجية – إلا قوامة الإنفاق والأمر والتأديب بالمعروف )( المرأة بين الأصول والتقاليد ص11 ) مع أنه أكد أن العلاقة الزوجية تنشأ وتنحل برضا المرأة ؛ وأنها تقوم علي الشوري والإحسان .
ولا نود أن نسي الظن في لفظ الدكتور " والتأديب بالمعروف " ؛ فإذا كان يقصد بذلك التأديب المعنوي عند حدوث الأخطاء الكبيرة فهو حق مكفول للطرفين .
أما إذا قصد التأديب بإستخدام الضرب ولو بصورة طفيفة ، إستناداً علي الأية ( والتي تخافون نشوزهن فعظوهن وأهجروهن في المضاجع وأضربوهن ) فأعتقد أنه لم يُوفق فيما ذهب إليه من إجتهاد ؛ ذلك أن الضرب قد يقفل كافة منافذ الإستمرار في الحياة ، وإذا كان لدينا فهماً راقياً كالتحكيم الذي أشارت إليه الآية ، فما الذي يجعلنا نتمسك بخيارات قد تجعل بيت الزوجية في مهب الريح؟ .
إن إستنباط الحكم الشرعي من آية واحدة في القرآن دون الرجوع إلي المقاصد الكلية ؛ سوف يجعل فهمنا لكتاب الله فهماً مبستراً وهو منحي أبعد ما يكون عن مقاصد الشريعة الإسلامية .
وقد ُروي أن النبي صلي الله عليه وسلم لمَا إختلف مع عائشة قال لها : أترضين تحكيم عمر . قالت : لا عمر غليظ . قال لها : فأبابكر . فقبلت بتحكيم أبوبكر رضي الله عنه ، وهذا المسلك هو ترجمة عملية للآية ( وإن خفتم شقاق بينهما فأبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ).
المظهر الرابع : الإحتقار والتقليل من شأن النساء وهو يعتبر عنفاً معنوياً ، وقد جاء في المثل ( المرة كان عاشت لزوجها - وكان ماتت للقبر ) وهو فهم يجرد المرأة من أي قيمة سوي إسعاد الرجل ؛ إنه فهم يطابق قول الشاعر :
ما للنساء وللكتابة والعمالة والخطابة
ذاك لنا ولهنَ منَا أن يبتن علي جنابة!
وقد قيل علي سبيل النكتة أن أمرأة ملَت من حياتها مع زوجها فقالت له : ليتني تزوجت الشيطان ولم أتزوجك فرد عليها متسائلاً : وهل زواج الأخ لأخته أصبح حلالاً ؟!
المظهر الخامس : قيام البنات بخدمة أخوانهن في الجوانب الشخصية ( كغسيل الملابس ، تحضير الحمام ، المكوأة ) وهذه الأشياء إذا كانت من باب التعاون فلا غبار عليها ، ولكن تكمن المشكلة في إجبار النساء علي ذلك كما في مجتمعنا الريفي .
المظهر السادس : فرض الزواج علي النساء دون إستشارة تحت شعار ( هي المرة عندها رأي ! ).
المظهر السابع : العنف السلطوي الذي تشنه الوحدات الإدارية تجاه بائعات الشاي . إن مثل هذا الأسلوب غير الإنساني من شأنه أن يعطَل حيأة الكثيرين ، لا سيما أن بعض الأسر تعتمد عليه في تسيير حياتها اليومية .
المظهر الثامن : حرمان النساء من دراسة بعض التخصصات ؛ وعلي الرغم من أن المرأة في السودان وجدت فرصاً للدراسة في مجالات شتي ، إلا أن قيود وزارة التعليم العالي حرمتها من دراسة بعض الكليات كهندسة البترول ، والتعدين ، والمساحة بحجة أن هذه المهن رجالية .
إن وضع هذه التخصصات لم يعُد يعتمد علي مقومات الرجولة والأنوثة ؛ إذ أن غالب التخصصات في عصرنا الحالي تعتمد إعتماداً كلياً علي التكنولوجيا . ولذلك يمكن أن نوظَف قدرات الأفراد وفقاً لطاقاتهم .ولا نري أي معني لمثل هذه القرارات إلا إذا كنَا نعيش بعقلية العصور الوسطي! .
المظهر التاسع : زواج الرجل بأمرأة أخري سراً ؛ إنه نمط منتشر في بلادنا ويمثل آيضاً حلقة من حلقات الإستهتار بالطرف الآخر في الحياة .
المظهر العاشر: حرمان المرأة من حقها في إنهاء العلاقة الزوجية إذا رأت أن حياتها مع زوجها تسير في طريق مسدود . إننا نشهد في مجتمعنا رجالٌ ُكثر يُعلقون المرأة في حبلٍ بين السماء والأرض ، ويتلذذون بذلك . فلا بد من قانون يحمي المرأة من حماقة هؤلاء .
المظهر الحادي عشر : نظرة المجتمع للمرأة المطلقة فيها إحتقار وإهانة لهذا الصنف من النساء .
المظهر الثاني عشر : الإعتماد في التشريع علي إجتهادات الآئمة الأعلام في شأن المرأة . إننا لا ُنقلل من شأن إجتهادات أهل المذاهب ، ولكن لا يمكن أن نسقط إجتهادات قبل أكثر من 10 قرون علي واقع اليوم ؛ وهذا ليس كلامي ؛ إنه كلام آئمتنا أنفسهم فقد قال أبا حنيفة : ( إذا ثبت الحديث فهو مذهبي ) .
هناك مظاهر أخري تحدث عنها باحثون ومفكرون . لقد ذكر الإمام الصادق المهدي في ورقته التي قدمَها لندوة إتحاد المصارف بعنوان ( نحو إطار مشترك لمناهضة العنف ضد المرأة ) العديد من المظاهر منها :
- الزواج المبكر انتهاك لحقوق الأطفال وقهر اجتماعي يقع على المرأة

- ظاهرة التشويه بماء النار كما حدث لسناء، وزينب، وعايدة، وملاك

- إعتبار المرأة كلها عورة وفرض أزياء تلقي وجودها تماماً وتجعلها مدانة بذنب لم ترتكبه .
ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍونقول في خاتمة هذا المطاف إذا كانت هذه هي مظاهر العنف ضد المرأة ، فما السبيل إلي إزالة هذه المظالم عن دنيا المرأة ؟
هناك أحد عشر إطاراً حددها المهدي في ورقته نري أنها خطوة في طريق الحل ؛ تلك الأطر هي :
إطار أخلاقي - ثقافي - ديني - قانوني - تشريعي - تربوي - إعلامي - وقائي يحمي النساء أثناء الحروب - توثيقي يسجل الحالات المختلفة بتنسيق رسمي وغير حكومي - تشبيكي بين المنظمات الدولية بهدف تبادل الخبرات والإمكانات - أخيراً الإستفادة من النفوذ السياسي النسوي لتشكيل هذه الأطر في ميثاق نسوي تتفق عليه القوي السياسية بمبادرة قومية نسوية .
كما أننا لا ننسي دور الشعر والرواية ، الدراما والسينما في كبح جماح هذه الظاهرة ، ونتمني من الدواخل أن تحقق المرأة حقوقها التي كفلها لها خالقها في كتابه المسطور قال تعالي ( يا أيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث فيهما رجالاً كثيراً ونساءا ).

الخميس، 17 ديسمبر 2009

في قلب مقولات ما يسمي هيئة علماء السودان . .
بقلم / الزبير محمد علي
صحيفة صوت الأمة
أصدرت هيئة علماء السودان في الاسبوع الفائت بياناً أوضحت فيه عدم شرعية المظاهرة التي دعت إليها أحزاب المعارضة وبعض شركاء الحكم في السودان.
وكان الهدف من المسيرة السلمية تسليم مذكرة لأعضاءالبرلمان المعيَن ! وحثهم علي الإسراع في تعديل القوانين المتعارضة مع الدستور الانتقالي لسنة 2005 تهيئةً لخلق مناخ صحي يتنافس فيه الجميع بحرية في الانتخابات العامة المزمع عقدها في أبريل (نيسان) القادم.
والغريب في الأمر أنني لم أنزعج عندي قرءاتي للبيان ؛ ذلك أن بعض العلماء يصيرون لقمةً سائقة للحكام في عصور الانحطاط والاستبداد.
وهو موقف قديم متجدد بإختلاف العصور ؛ بدأ منذ إنتهاء عهد الخلافة الراشدة إلي ملكٍ يتوارثه البنين لا المؤهلين، وتحرسه الجيوش لا الشرعية ، وفوق ذلك كله يؤصل له بعض المتمسحين بدهان العلم والدين.
وقد أفتي بعض العلماء في العهد العثماني للخليفة بقتل أخيه الذي ينافسه في الحكم ، بحجة أن بقائه علي قيد الحياة فتنة والفتنة أشد من القتل!!.
إننا لسنا بحاجة إلي تفكيك هذا البيان من منطلق تأصيلي لكوننا نعلم أن الإسلام لا علاقة له بهذه الدعاوي الانتقائية المسيسة.
ولكننا بحاجة إلي مناقشة الأمر من منطلق من يحق له التحدث بإسم الإسلام ، ذلك أن الهيئة لا تعدواعن كونها ممثلاً شرعياً لشريحة ضيقة من السودانيين.
ومن زاويا أخري فإن قضايا السياسة والحكم تقع في دائرة الإجتهاد التي مهما بلغ صواب المجتهد ؛ لا يمكن أن يعطي رأيه قدسية الوحي.
ولهذا نري أن الهيئة أخطأت خطأً فادحاً عندما قالت " لا يجوز لمسلم أن يخرج في مظاهرات ينظمها أعداء الإسلام"
إن الهيئة بهذا الحديث إنما تنصب نفسها بمنصب القدسية التي لا تكون إلا لقطعيات الوحي ، في حين أن لديها خيارات أخري كان من الممكن أن تكون أقل فداحةً مما ذهبت إليه ببيانها.
ثم إذا كانت الهيئة تري أن مظاهرة الإثنين قد تؤدي إلي فتنة ؛ وأن بيانها ياتي في إطار الحرص علي الممتلكات وأرواح المواطنين، أليس الأجدر بها أن توجه هذا البيان إلي الحكومة ؟
أليس الأحري بالهيئة أن توجه بياناً للذين يقودون العربات المدرعة ، ويضربون بالرصاصات المطاطية ، و يقذفون بالقنابل المسيلة للدموع ، والمعطلة للأعصاب بالسماح للمسيرة أن تمر إلي البرلمان؟!
ثم ما موقف الهيئة من الوسائل غير الإنسانية التي تستخدمها الأجهزة الأمنية في قمع المتظاهرين؟ أليس حفظ أرواح المتظاهرين من المقاصد الخمسة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية والتي من بينها حفظ النفس؟
ونضيف إلي هذه الأسئلة تسأولاً آخر للأستاذ فيصل عبد الرحمن عن مدي حرمة البمبان وإستخدام العصا الكهربائية؟
وإذا كان الإمام الصادق المهدي قد دعا إلي تحقيق حول إستخدام الغاذ المسَيل للدموع ؛ فإننا نتضامن مع أستاذ فيصل في الدعوة إلي تحريم إستخدام الغاذ المسَيل للدموع بصورة فقهية ، ولنري هل توافقنا الهيئة في هذا أم لا؟
إن الهيئة بهذا البيان تؤكد لنا أمرين :
الأول : أنها كشفت عن نفسها القناع بأنها تمثل ذراعاً سياسياً للنظام ، وأن مهمتها ليس حرس مشارع الحق والدفاع عنه فقهياً ؛ وإنما تأصيل أفعال النظام المحمودة والمذمومة ، وإيجاد مبررات فقهية لها تسند وجهة نظر الحزب الحاكم.
الثاني : أن الهيئة أصابتها ظاهرة العمي الأخلاقي التي تحدث عنها د/ التجاني عبد القادر عندما صَور موقف الغربيين إزاء حقوق الإنسان ، فهم مع حقوق الإنسان إلا إذا كانت المنتهكة لحقوق الإنسان إسرائيل!.
لقد شاهدت الحلقة التي أقامتها قناة طيبة الفضائية عن هذا الموضوع ، وقد ذكر فيها الشيخان جلال الدين مراد ، وسعد أحمد سعد - وهم أعضاء في الهيئة - كلاماً نسأل الله تعالي أن يسامحهم عليه.
قيل لهم : لماذا لا توجهون نصائحكم للحكام ؟ قالوا : ننصحهم ولكن ليس في وسائل الإعلام!.
قلنا إذاً لماذا تنشرون نصائحكم للمعارضة في وسائل الإعلام ؟ لماذا لا تذهبوا إلي قادة المعارضة وتوجهوا لهم نصائحكم دون نشرها كما فعلتم مع الحكومة؟
أهي إزدواجية المعايير التي يمارسها النظام الدولي الجديد الذي ما برحتم تنتقدوه علي هذا الإسلوب؟!.
قالوا : إننا ببياننا هذا ننبه المواطنيين إلي الإبتعاد عن الأحزاب الفاسدة .
قلنا : حسناً فما الذي يمنعكم من تنبيه المواطنيين إلي الإبتعاد عن الحزب الحاكم ؟ أليس المؤتمر الوطني من الأحزاب الفاسدة سياسياً بإستخدامه للرشاوي وشراء الذمم! ؟ والفاسدة إقتصادياً أيضاً بشهادة المراجع العام عن حكومته التي يشكل فيها أغلبية؟
قالوا : لكن هناك مؤامرة من أعداء الإسلام ! لديها مصلحة في إحداث فتنة في البلاد ، وقد إختاروا لها نفس اليوم - الإثنين - الذي نكَلوا فيه بالمسلمين!.
قلنا : هل لديكم قرائن علي هذا الكلام ، فالمسلم مطالب بالدليل ليثبت صحة ما يقول قال تعالي ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وحقائق الوحي ما برحت تؤكد : ( إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ).
قالوا في سياقٍ آخر : الأحزاب ليس لديها جماهير ؛ ولذلك تريد أن تهرب من الإنتخابات خوفاً من السقوط وهذا هو سبب المظاهرة.
قلنا: إذا كانت الأحزاب ليس لديها قواعد ؛ فما معني السيارات المفخخة ، وما جدوي القنابل المسَيلة للدموع! .
أليس هو الخوف من الشلالات المتدفقة من كوادر الأحزاب وليس جماهير الأحزاب؟
وفي إتجاهٍ أخر قال الأمين العام للهيئة محمد عثمان صالح لسودانيز أون لاين : ( إنهم يتشرفون بالدعوة لكل من يعمل لصالح الإسلام والمسلمين وإصلاح حال البلاد ولا بأس من مساندة أهل الحكم الراشد إذا كانوا علي صواب).
قلنا : وهل أهل الإنقاذ هم أهل الحكم الراشد ؟ وهل من يسبَح ويذبَح يعمل لصالح الإسلام؟ومن يأخذ الفوائد المركبة في البنوك المسماة إسلامية بواقع أكثر من 10% ؛ هل يعمل لصالح المسلمين؟ في حين أن البنوك الإسرائيلية تأخذ من القروض فائدة أقل من 3%.
بل إن إسرائيل تسمح بخروج المسيرات دون إذناً مسبقاً من الأجهزة الأمنية، وهي لا تسعي لتطبيق شرع الله مع أن من يدعَون ذلك يستخدمون من وسائل القمع ما ينافي الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ، ما لكم كيف تحكمون!.
إن العلماء هم ورثة الأنبياء ، ولذلك فضَلهم الله تعالي علي سائر خلقه ، قال صلي الله عليه وسلم (إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتي الحيتان في الماء ، وفضل العالم علي العابد كفضل القمر علي سائر الكواكب).
وذكر بن الجوزي في" صفة الصفوة "عن الفضيل بن عياض . قال : سئل بن المبارك من الناس؟ قال : العلماء .
قال : فمن الملوك ؟ قال الزهَاد . قال : فمن السفلة . قال : الذي يأكل بدينه.
إن في هذا لتبصرةً وذكري لمن كان له قلبٌ أو ألقي السمع وهو شهيد ، وقد كان العلماء الأجلاء في السابق يحرصون ألا تعميهم غشاوة السلطان عن قول الحق .
قال وهب بن منبه لعطاء : ( كان العلماء قبلكم قد إستغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم ، فكانوا لا يلتفتون إلي أهل الدنيا ، ولا إلي ما في أيديهم . فكان أهل الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبةً في علمهم.
فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبةً في الدنيا . فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوه من سوء موضعة عندهم. فإياك يا عطاء وأبواب السلاطين ؛ فإن في أبوابهم فتناً كمبارك الإبل لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله).
إننا بعد هذا التوضيح نوجه الدعوة لهيئة علماء السودان إلي قراءة إتفاقية نيفاشا ، ومشروع الدستور الإنتقالي المجاز في عام 2005.نقول ذلك لأن لغة البيان تشير إلي عدم علم هؤلاء العلماء بمحتويات بنود الإتفاقية والدستور.
ولكن إذا فرضنا أنهم علي علمٍ بهما ، فالأفضل لهؤلاء الأعلام الأجلاء أن يوجهوا نقدهم للدستور وللإتفاقية لأنهما أعطيا الحق لأعداء الإسلام - وفق تعبيرهم – أن يدخلوا البرلمان ؛ وأن يكون لهم الحق في مناقشة وإجازة القوانين ؛ وأن يكون قائدهم هو ولي أمر المسلمين في حين غياب الجنرال البشير.
إن الهيئة إن كان لها رأي فعليها أن تطعن في الفيل لا في ضله!.

الجمعة، 11 ديسمبر 2009

إذا كان هذا هو الإسلام ؛ فما الذي أجهض الحقيقة ؟
لا جدال أن الإسلام جاء متفردا في طرحه دون سائر الأديان ،وهذه العبارة ليست من باب الاستعلاء، أو التعنصر ،أو نرجسية الذات ولكن حقائقه الواضحة في إقامة الدين على التوحيد والجزاء الاخروى ،ومزجه الفريد بين الإيمان والعلم، وبين المادة والروح وتوفيقه بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة، وحثه على التمتع بزينة الحياة الدنيا والفوز بنعيم الآخرة ،كل هذا يدل على أن الإسلام هو الدين المؤهل لإشباع تطلعات الإنسانية، وحمل رايات الخلاص الكوني في هذا العصر .
لقد أقام الإسلام شبكة العلاقات الإنسانية على المساواة والأخوة بين الناس فلا مجال للتمييز البشرى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) ولا مجال للتمييز النوعي ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجز ينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعلمون) ولا مساحة للاضطهاد السياسي قال عمر رضي الله عنه (أمير المؤمنين أخو المؤمنين فان لم يكن أخا للمؤمنين فهو عدو للمؤمنين)
وعلى صعيد الاقتصاد فان تعاليم الإسلام أقرت بحرية الفرد في اكتساب المال بشرط انتهاج مبدأ الكسب الحلال في الرزق (وفضلنا فبعضهم على بعض) وتكره احتكار المال (كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم) وتزجر كانزي الثروات ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم) وتحرم الاعتداء على المال العام قال عمر(لكم على إلا أجنى شيئا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه)
لقد جاءت تعاليم الإسلام بتوجيهات منقذة ومخرجة للإنسانية في كافة مجالات المعرفة ( في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلاقات الدولية وغيرها) وجاءت هذه الاضاءت المعرفية المشبعة بتعاليم الوحي في وقت كانت فيه هذه التعاليم غريبة على مجتمع القرن السادس الميلادي ؛ وبها حقق المسلمون أبهى أمجادهم ، وبنوا حضارة قل أن تجد لها مثيلا في ذاك التاريخ.. ومع وجود حقائق مثل هذه ؛ فان ثمة سؤال يلح على نفسه مرارا ومفاده ما هي المؤهلات والعلوم التي كانت موجودة في مجتمع ما قبل الرسالة الإسلامية حتى نشهد كل تلك الاضاءات المعرفية ؟
ويجيب طه جابر العلوانى ( رئيس المعهد العالمي للفكر الاسلامى سابقا) على السؤال بقوله (إن العرب لم يكن لهم قبل القران ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍالعظيم من كتاب ، وما كانت لهم قبله من معارف أو علوم تذكر اللهم إلا شيئا من التاريخ ومعرفة الأنساب ، وشيئا من الفراسة والقيافة ، ومعرفة النجوم والأنواء وقص الأثر ، والشعر ديوانهم ، وسجل خبراتهم وتجاربهم ، وقد كان القران الكريم منطلقهم إلى المعرفة )
لقد أورث النبي "ص" الأمة الإسلامية نموذجا معرفيا شملت تغطيته كافة أوجه الحياة لدرجة جعلت احد المشركين يبدى عجبه واستغرابه ؛ فقال لسلمان الفارسي رضي الله عنه : (لقد علمكم نبيكم كل شي حتى الخراءة ؟ فقال سلمان : اجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ، أو نسنتجى باليمين ، أو أن يستنجى احدنا بأقل من ثلاث حجار ، أو نستنجي برجيع أو عظم)
ومن نافذة اليسر ورفع الحرج ، فان النموذج المعرفي الذي ورثناه عن النبي "ص" لم يكن جامدا ؛ بل يحث على الاجتهاد والتدبر ويزجر التقليد وتعطيل العقول (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) ويفقد الاجتهاد والتدبر معناهما إذا دخلا في تأويل الحقائق الغيبية ( ما أشهدتم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسكم ) أما في مجالات الحياة الأخرى فان الإسلام جعل باب الاجتهاد فيها مفتوحا وفقا للضوابط القرآنية والنبوية .
ولذلك أدرك الصحابة رضوان الله عليهم هذا اليسر ونفى الضيق في الإسلام فرفض الإمام على الالتزام بسنة الشيخان ، واختلف ابن مسعود مع سيدنا عمر ، وزيد بن ثابت مع ابن عباس ، وسيدنا عمر مع على رضي الله عنهما.
إن هذه النماذج تؤكد أن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا أن الإسلام لم يضع تقديسا للاجتهادات البشرية ، ويؤكد ما ذهبنا إليه نموذج عمر رضي الله عنه في حادثة موت النبي "ص" ، حيث يروى ابن عباس أن عمر قال له عندما تولى خلافة المسلمين : (يا ابن عباس هل تدرى ما حملني على مقالتي التي قلت عندما توفى رسول الله "ص" ؟ - " يقصد بذلك حينما قال إن القول بموت النبي "ص" إرجافا من المنافقين " – قال : قلت : لا أدرى يا أمير المؤمنين أنت اعلم . قال : فانه – والله – إن كان الذي حملني على ذلك إلا أنى كنت أقرا هذه الآية ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) فو الله إن كنت لا أظن أن رسول الله "ص" سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فانه الذي حملني على أن قلت ما قلت ) وما يفهم من حديث عمر انه فهم معنى الآية الكريمة بكون شهادة النبي "ص" ستكون في الدنيا ؛ وانه سيبقى حتى يشهد آخر أيام هذه الأمة . وحين اجتهد عمر هذا الاجتهاد وقف الصحابة في وجهه وعلى رأسهم ابوبكر وردوه إلى الصواب فاستجاب وهذا دليل على أن مقياس الحق لا يوزن باجتهاد الرجال ؛ بل بموافقته لقطعيات الوحي والسنة .
إذا فما الذي جعل قدسية القران تتحول إلى الاجتهادات البشرية ؟ وما الذي جعل مقولات كهذه ( كل حديث أو آية تخالف ما عليه نحن وأصحابنا إما مؤول أو منسوخ ) تقال مع وجود اختلاف بين اجتهادات الصحابة أنفسهم " والمقولة منسوبة للأحناف "؟ وما الذي أجهض حقيقة أن القدسية لا تكون إلا لقطعيات الوحي والسنة ؟. ولماذا تم قفل باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري ؟ هل كان قرار قفل باب الاجتهاد سياسيا ؟ الإجابة على هذه الأسئلة سنترك تناولها للمقال القادم بإذن الله لضيق المساحة وسعة الآراء في هذا المجال .
واذكر بان قفل باب الاجتهاد أدى إلى إدخال الفقه الاسلامى في غيبوبة جعلته عاجزا عن حل المشاكل التي واجهت المسلمين في الحقب السابقة، وما زلنا نعيش بعض ترسباتها ، فقبل أيام قليلة اصدر احد الزملاء معنا في الجامعة بيانا أوضح فيه أن شخصه سيقاطع اجتماعيا كل من يدعو إلى العلمانية والماركسية ، وكل من يرفض تحكيم شرع الله ، وفوجئت بان وجدت شخصي ضمن "كفار قريش"!! ومعي آخرون ينتمون إلى مدارس إسلامية لها باع طويل في مجال الدعوة. وما ادهشنى حقا هو أن بيانه تحدث عن ضرورة توطيد العلاقات بين المسلمين ، واحترام أصحاب الأديان الأخرى لاسيما الذين لا يعادون الإسلام . إذا فما موقعنا نحن ؟ أظن أننا من الذين كرر عنهم مقولة احد الكتاب " إن العلمانيين لا يجب مقاطعتهم فحسب ؛ بل مقاتلتهم أيضا " وحسبنا منهم . "حسبنا الله ونعم الوكيل من هذا الفهم".