رباح الصادق
في يوم 26 ديسمبر الماضي كتب الصديق الزميل عبد المنعم سليمان في عموده (صدى الأجراس) بهذه الصحيفة بعنوان الخليفة (نافع)..! وهي كتابة خشنة في حق الرجلين، أما الدكتور نافع علي نافع فهو حاضر وبإمكانه الرد على ما يضيره إضافة لأننا نظن أن الخشونة في الحديث عنه تتسق بشكل كبير مع الخشونة التي يتحدث بها عن الآخرين و(التسوي كريت في القرض تلقاه في جلدها)، أما خليفة المهدي فهو في ذمة الله والتاريخ، ولذلك لم نستحسن فكرة مناقشتنا للأستاذ سليمان أفكاره عنه هاتفيا في إطار التباين أو التلاوم بل لأن الأمر طرح على القراء فمن حقهم أن يشاركونا النقاش حول القضية المطروحة.مدخل تعليقنا حول الأمر هو حمدنا للأستاذ عبد المنعم أن ثبّت اسمه على العمود مؤخرا، وفي بادئ الأمر كان الصدى يكتب بدون الإشارة لكاتب وكأنه رأي الصحيفة مجملا، ولا بد أن هذا التحول كان نتاج أحداث ومواقف وقضايا كثيرة أثيرت في "الصدى" وبعضها مما لم يحتمله خط الصحيفة، أو موقعها من الخارطة السياسية فكتابة الأستاذ عبد المنعم كانت في الغالب تتميز بالجسارة ولم يكن لها (قشة مرة) في التعامل مع المسئولين فطالت حتى بعض أولئك الذين هم من الحركة الشعبية ولها في الصحيفة ركن ركين. وإن كنا نظن أن مواقفه السابقة كانت تنحاز للمهمشين وللديمقراطية وتتسق بالتالي مع صحيفة كتبت أنها (صوت للمهمشين والديمقراطيين والمجتمع المدني) وذلك بالرغم من أنها –أي الكتابات- اتسمت بحدة أحيانا واتخذت أسلوب الإثارة أحيانا أخرى مما يفقدها القوة المطلوبة للمخاطبة الموضوعية، وهي من المآخذ على خط الصحيفة وبعض كتابها في العموم.. أقول برغم انحياز عبد المنعم الديمقراطي وللمهمشين إلا أننا نظن أن موقف الصدى الأخير من خليفة المهدي أخطأ مرماه العدالي وصب في تيار استعلاء المركز المشهور، وإن كان ظننا أن الأستاذ عبد المنعم لم يقصد أو غير مدرك لهذا البعد الخطير في كتابات الوطنيين التي تنكر خليفة المهدي أو تسيء إليه. وقد التفت للغرض وراء الإساءة لخليفة المهدي كثيرون منهم الباحثة الفرنسية الدكتورة فيفيان ياجي والتي لاحظت في البداية وهي تترجم كتاب سلاطين (السيف والنار في السودان) للغة الفرنسية لاحظت الانفصام في كتابات الرجل عن المهدي، وفي محاولته المتكررة التفريق بينه وبين خليفته فأرجعت ذلك بعد البحث والتقصي للغرض الاستعماري في الدعاية الحربية ضد الخليفة. ومن ثم أوقفت قلمها للدفاع عن خليفة المهدي فكتبت (الخليفة عبد الله في ضوء جديد) و(رجال حول المهدي) مركزة حقيقة على الرجال الأقرب لخليفة المهدي. ولكن الغرض الآخر وراء الإساءة لخليفة المهدي والذي يعنينا لفت الانتباه إليه لكيلا تقع الأرجل في مزالقه بغير قصد نابع من الاستعلاء الجهوي. وقد انتبه لهذا الغرض كثيرون من أبناء الهامش. ويحمل الإساءة لكل ما يأتي من الغرب فكما يردد بعض أبناء (البحر) المثل (البجي من الغرب ما بسر القلب) نقلا للمثل من موضعه الأصلي، فإنهم وقفوا ضد خليفة المهدي ونالوا من أهليته لمجرد أنه لم يأت من (سنار والمناطق التي كانت تابعة لها) وهذا ظاهر في أشعار القوم، ولنتخذ مثلا الحاردلو أمير شعراء البطانة وشبيه أمرئ القيس في شعراء الجاهلية كما اثبت الدكتور إبراهيم القرشي في سفره الممتع حول الرجلين (بين الأميرين الشاعرين امرئ القيس والحاردلو: قصة التشابه المذهل)، وللحاردلو شعر مجيد في مدح خليفة المهدي مثل قوله حينما نجا الخليفة من محاولة اغتيال: أنصارك كتار تامين عبار الكيل زي نبت الربا وكتين قدوم السيل كان ما جور زمان ناسا فهمها قليل شرك أم قيردون كيفن بقبض الفيل؟ ولكنه حينما هجاه لم يهجه إلا بأنه من الغرب و(بقاري): (ما شفنا الإمام وخليفته بقاري)، وأنه من قوم (قباح) ودون أذلوا (العزاز): ناسا قباح من الغرب يـــــوم جـــونا سووا التصفية ومن البيوت مرقـــونا أولاد ناس عزاز متل الكلاب سوونا يا يابا النقس يا الإنجليز ألفونـــــــــا ونحن لا نود محاكمة أمير شعراء السودان بمقاييس لم يعشها ولم يثقّف عليها كالمواطنة والمساواة وغيرها فقد كانت المفاهيم السائدة حول العزة والرفعة قبلية من جهة، وسنارية من جهة أخرى، ولنا كتابات وتأملات في هذا الأمر نشر بعضها ولا نود أن نغرق فيها الآن لكننا ننبه إلى أن الهجوم على خليفة المهدي كثيرا ما نبع من الذهنية المستعلية، وولغ في ذلك كثيرون ولم تكن فتنة الأشراف المعروفة تاريخيا إلا صدى لاستنكار أن يتولى (أهل الغرب) زمام الأمور دون أهل البحر، أقول ذلك والأشراف أهل الفتنة كانوا من أهل المهدي الذين نصروه (وأهلي) ولا تجمعني بخليفة المهدي صلة دم ولكن إحقاقا للحق. وقد التفت للاستعلاء الجهوي الذي يقبل بعض المهدية ومنها المهدي ويلفظ الآخر ومنه خليفته، التفت له كثير من أهل الهامش، ونبه له مثلا الشاعر الأستاذ عالم عباس في بعض كتاباته، وحينما تدخل موقع حركة تحرير السودان الدارفورية بالشبكة العنكبوتية فلا تتعجب لأنك سترى صورة خليفة المهدي راكبا حصانه مكتوبا تحتها: الخليفة عبد الله.. رجل الدولة القوي، ، فقد التقط هؤلاء أن خليفة المهدي هو حصة الغرب التاريخية في قيادة البلاد، وأن مطالبتهم بحصتهم الآنية والمستقبلية مرتبطة بالاعتراف بدوره الحقيقي بعيدا عن الاستعلاء النيلي المشهود. فالإساءة لخليفة المهدي بالذات نصفها الأجنبي دعايات محتل، ونصفها الوطني أمنيات مستعل، والحقيقة أنه تاريخيا كان شخصية قوية صادقة ذات عزيمة بالغة وإيمان راسخ وجسارة أذهلت حتى أعدى أعدائه. صحيح كانت المهدية أحادية بشكل يتسق مع مهام التحرير والتوحيد الوطنيين في زمان الخنوع، والبعث والتجديد الدينيين في زمان الركود، وكان أسلوب الخليفة حاسما بشكل اقتضته تلك المهام نفسها وهي صورة وصفها المؤرخ البريطاني هولت بقوله إنه لم يكن مستبدا ولكنه كان سجين ظروفه! وصحيح أن تلك الصفات تتعارض مع ما تتطلبه إدارة التنوع في بلادنا وما نطالب به الآن، ولكن مقارنتها ومقارنته بكل من هب ودب في بلادنا من المتسلطين الذين أخذوا زمام الأمور عنوة وأبقوها بالحديد والنار يجافي الحق مجافاة عظيمة. وفي مقالة الأستاذ عبد المنعم سليمان التي قرأ فيها عهد (الإنقاذ) على ضوء عهد خليفة المهدي أو العكس، نرى أن تاريخ الخليفة قد حوّر بشكل لا يطاق. ومن التحويرات البالغة في تلك المقالة القصيرة قول سليمان إن خليفة المهدي هرب من أم درمان لأم دبيكرات وهي مسافة سبعة أيام في يوم ونصف وأورد شعرا يؤكد ذلك، وقال إن الخليفة جذب لبلادنا عداوة الدنيا، وإنه لم يكن يرى أبعد من (فروته).. وحريٌ بالأستاذ عبد المنعم ككاتب أن يتلمس الحقائق بشكل أبعد مما تبلغه المسامع من أقوال وأشعار ساقتها قلوب محبة أو ألسن مرة. فقد سمعنا من الشعر الكثير أمثال (ود النجومي التي كانت تعاكسنا الله أهلكها في توشكى يا أخينا) وصفا لتوشكي من جهة أو (كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية.. خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية) وصفا لكرري من جهة أخرى، ولا يكون ذلك الشعر دليلا لواقعة. أما عن أم دبيكرات التي استشهد فيها خليفة المهدي، فالراجع للتاريخ يجد أن كرري كانت في 2/9/1898م، وأم دبيكرات كانت في 24/11/1899م أي بعد عام كامل وشهرين كاملين وزيادة وليس مجرد يوم ونصف! إن القوة التي لاحقت قوات الخليفة المنسحبة في خور أبعنجة صبتها بالبارجات ولكن لم تفلح لبعد المدى، ثم أرسلت خلفها قوة بقيادة عبد العظيم بك زعيم العبابدة ولم تفلح باللحاق أيضا. أما ثالث قوة أرسلت للحاق بقوات الخليفة فقد كانت بقيادة الكولونيل كتشنر (قريب كتشنر السردار)، واتجهت للحاق به في كردفان، وكان قد أقام لمدة شهرين في منطقة شركيلا، ويورد المؤرخ العظيم عصمت زلفو في كتابه (كرري) روايات جردة كتشنر عن الرعب الذي تملكهم حينما زاروا معسكر الخليفة الذي أقام فيه فترة في "العقيلة" في يناير 1899م أي بعد أربعة أشهر من كرري فقفلوا راجعين، وأخيرا أرسلت للخليفة قوات بقيادة ونجت لما سمع المحتل باتجاهه بقواته نحو أم درمان. الشاهد من كل هذا أن الخليفة لم يتم اللحاق به في يوم ونصف.. وهي حقائق تظهر كذلك أن خليفة المهدي ومن معه كانوا كارين وقاصدين أم درمان متجهين لها بعد عام كامل قضوه في قدير بجبال النوبة في مهمة يائسة بتحرير البلاد أو لقاء ربهم، ولم يكونوا كما قال الأستاذ عبد المنعم هاربين، وذلك بالرغم من أن الحرب كر وفر.. وقد فعلها المك نمر إثر الحريق الشهير ولا زلنا نمجده ونسمي باسمه أكبر معابر العاصمة .. ألأنه من (دار جعل)؟!! ونحن بالطبع لا نقلل من العمل البطولي للمك نمر ضد المحتل ولكن نتعجب في قبول الانسحاب حينا ولفظه في آخر مع أنه إستراتيجية حربية معروفة. وأعجب ما يكون وصف حادثة الفروة بأنها قصر نظر وهي العكس تماما فقد قال الخليفة: لتذهب الدولة وتبقى الدعوة، وكانت تلك الحادثة بمثابة عمر جديد للمهدية كما يقول الإمام الصادق المهدي، عمر دفع لقاءه حياته وأذهل المحتل وأجبره على تحيته وهو صريعٌ مضرج بالدماء على نحو ما فعل "ونجت" العدو الذي سعى بيديه ورجليه لتشويه سيرة الرجل.. أيضا فإن المهدية ودولتها كانت بنت العزة الوطنية في زمان تكالب به المستعمر على أفريقيا واحتلها شبرا فشبرا، أجلت قواته من البلاد وأفلحت في إدارتها زمنا حتى عاد من جديد مسلحا بالمكسيم وما لا قبل لأسلحتنا به فالمستعمر كان فيها وعاد إليها ولم نجتذبه كما تفيد مقالة عبد المنعم. والقوى الدولية حطمتنا بقوة السلاح ولم تهزمنا كما قال ونستون تشرشل أحد الغزاة أنفسهم.. أما (الإنقاذ) فقد جاءت لتزيل حكما وطنيا ديمقراطيا منتخبا وإن لم يكن يحوز على رضا قوى كبرى كأمريكا إلا أنه كان قادرا على مخاطبة العالم بندية والعيش فيه بعزة، وفيها –أي الإنقاذ- ولجت بلادنا جحافل الأونمس واليوناميد والأيميد، وحطمت مع مقدمها شعارات (المشروع الحضاري) ودبت الفتنة بين قادته وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون كما نقرأ ونسمع. والأهم في المقارنة التي ساقها عبد المنعم بين الحدثين أن صاحب دعوة المهدية ذهب وهو راض تمام الرضا عن خليفته وكان يقول في فراش موته (خليفة الصديق مني وأنا منه) بينما كفر صاحب الدعوة الإنقاذية بها وشاع عنه قوله في بعض الندوات إنه أعدّ خليفة فإذا به (تليفة) أو كما قال.. وهكذا نجد أن المهدية ألهمت حركات التحرر العالمية ضد احتلال أو ظلم الرجل الأبيض، فنرى جماعات تنتسب إليها من الصين شرقا وحتى أمريكا غربا، ولا نظن الإنقاذ ألهمت أحدا بل كفر بها أصدقاؤها أنفسهم ممن صدقوا الشعار أمثال بن لادن وكارلوس وهلم جرا.. لقد أوردنا ذلك من قبل في مقالات منشورة ولا نود تكرار حديثنا ولكننا نقول إن المقارنة لا تنعقد! ومربط الفرس فيها (الصدق) وقد أثبت الأستاذ عبد المنعم- برغم إساءته للخليفة- لأنصار خليفة المهدي وأتباعه أنهم رجال (صادقون). ولأن الحديث عن خليفة المهدي برفع الإساءة عنه لا يكفي لوصف ما يستحقه الرجل فإنني أورد ختاما لهذه المقالة أبيات من قصيدة طويلة كتبتها في محبته قبل أعوام ثلاثة ونحن نزور أم دبيكرات: يا خليفة الصديق حبّكم دفّار تجد ام دبيكرات طالبة الأشعار عطشانة لمدحك الحق ما بوبار يا حبيبنا عفوا لهجنا قصّار يقصر عن وصفك يا تاج الدار يا الهان السلطان يا الذل الدينار جوّد كل آثم وجوّد من جار صادق وسراطا حاسم بتار لي كل خيراتٍ كنت الشمّار جبرت كسورنا ودمرت الكسار قشقشت الدمع الفي الدين كان مطّار والدمع الان يا حبيب فيكم مدرار كونك صميما عزمك ما خار من بعد الكسرة ما طغت الحسرة ما خبت الفكرة جمّعت صفوفك.. قاصد للكرة في أب عنجة راوك.. وبالبارجات صبوك غرّبت وما قدرو.. بالبك لحقوك في أب ركبة نزلت.. وللسيد زرت وفي شركيلا أقمت.. شهرين ثم خترت الجردة الجاتك بي كتشنر ارتدت خافت من شوفة أعلامك صدّت كت زايد عزمك بتاً ما لنـــت وصعيدا سرت.. لي قدير اتدرجت قاصد تعيد الكر وتنّي الأخبـــار ترجع من تاني للدين تبني حدار حولا مكثت.. ومن تاني كــررت لي الظلمة قصدت يا الراية رفعت.. يا دمّك هدّار لاقوك للبقعة قاصد سيار ناس ونجت وجيشو الخاتين الأشرار خطيت التاريخ بي حروف من نار من نور ونهار يا سيد أمباية ونحاسك نقار حللت البيعة للداير يختار وصمدت ومن حولك كل الأخيار في الفروة انتظارك لي موت بي ثمار للقبلة موجه.. للجنة اختيار ** يا خليفة الصديق حبّكم دفار كب فينا كبّك أملانا ثمار بذرة ونّوار صب فينا صبّك.. للدين نبقى جدار نغسلو نجلوه من طين ثم غبار من كل من باعو ودنّسلو شعار والوطن الباكي مجروح حسار شعبه الما بركع غير للقهّار دارس في فصلك في هدي الدار درستو درسك ما خابلو الكرار ما خاب من تبعك.. يا التابع سيد الغار أقبل كلامي لا معرب لا مسدار مولاي بي جاهكم يسترنا من الخرخار الظالم والنهّار يسدل علينا ستار ننصر على من جار وليبق ما بيننا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق