الأحد، 2 أغسطس 2009

بقلم/ فهمي هويدي
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: لأن مصطلح الوسطية صار فضفاضا بحيث تلفع به كثيرون، فاحسب أنه لم يعد كافيا أن يعلن أي فرد أو جماعة عن التزامه بالوسطية، وإنما تعين علينا أن نسأل أية وسطية؟ وما هو موقفها من القضايا الحيوية المثارة في المجتمع؟. وهذا الاتساع في مفهوم المصطلح ليس مقصوداً على الوسطية فحسب، ولكنه بات يشمل أيضاً مختلف العناوين المثارة في زماننا، من الإسلامية إلى الليبرالية والعلمانية والتعددية وغير ذلك. إذ رغم أن العنوان يشير إلى وجهة معينة، إلا أنه غدا من المهم للغاية أن يتعرف المرء على الهدف المراد بلوغه في نهاية المطاف. ولا سبيل إلى التحقق من ذلك إلا من خلال أمرين يكمل بعضهما بعضاً، الأول يتمثل في ضبط المصطلح والاتفاق على تعريف له ، والثاني يكون باختبار ذلك المفهوم عند تنزيله على الواقع المعاش، ممثلاً فيما أشرت إليه من قضايا حيوية أو تحديات تواجه المجتمع. الكلام كثير في تعريف الوسطية ، يمتد إلى كتابات أرسطو وأفلاطون، حيث اعتبر الوسط عندها موقفاً عقليا واستنباطيا وكمياً أحياناً. وثمة نص قرآني صريح يصف الأمة الإسلامية بأنها "أمة وسط". وأضاف الوصف القرآني بعداً قيمياً إلى المصطلح، حتى قال أهل التأويل أن كلمة "وسط" تعني "العدل" كما ذكر الإمام الطبري. وأشار عدد من المفكرين العرب إلى فكرة الوسطية كقيمة مهمة في الثقافة الإسلامية. فتحدث عنها مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، والدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "الشرق الفنان" ووصفها توفيق الحكيم "بالتعادلية" في كتاب له صدر بذات العنوان. وفي السنوات الأخيرة تبنى مصطلح الوسطية وروج له وعالج تفصيلاته علماء محدثون، في مقدمتهم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابات عدة. وقد شاءت المقادير أن يكون حظ الأمة الوسط، في العدل والخير والاعتدال، أن تصبح وسطاً أيضاً على صعيد الجغرافيا. باعتبار أن موقع الأمة العربية جعلها في بقعة تمتد بين الشرق والغرب، حتى قُدِّر لها أن تمزج بين السمت الأساسي لثقافات الطرفين. إذ امتزجت فيها والتقت روحانية الشرق ومادية الغرب، الأمر الذي أضفى فرادة على طابعها الثقافي، عبّرت عنه ثقافة الوسط التي سادت تاريخياً في بلادنا. وإذا جاز لنا أن نعرف الوسطية في ضوء المعالجات المتعددة لها، فربما قلت أنها موقف يتسم بالتوازن في التفكير والنظر، يقبض على الأصول ويقبل الاختلاف في الفروع ، وفي تحري التوازن المنشود، فإن الموقف المختار ينحاز إلى ما من شأنه التوسعة والتيسير على الناس حسب مقتضى الحال والزمان، وهو منطق يحتاج إلى بعض التفصيل. ثانياً: التوازن الذي أعنيه ليس نقطة وسط بين الخير والشر أو الحق والباطل، ولكنه انحياز بالكلية إلى كل ما هو خير وحق مع الاعتراف بوجود الضد لكل منهما. ذلك أن هذا الاعتراف هو من دلائل الوقوف على الأرض ورؤية المجتمع الإنساني كما هو، بما فيه من شر وقبح وظلم. ذلك أن قيم الحق والخير والجمال لا تدرك إلا من خلال أضدادها، وإنكار الأضداد لا يمثل انفصالاً عن الواقع فحسب، ولكنه يغيّب عن الناس إدراك الحكمة الإلهية. وحين احتجت الملائكة على خلق الإنسان بدعوى أنه سيفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، فإن الله سبحانه وتعالى بين لهم الحكمة الخفية من خلقه، وأن هذا المخلوق الذي يدور في داخله الصراع بين الخير والشر هو خليفة الله الذي يعلم الأسماء وأنيطت به عمارة الأرض. التوازن أراه أيضاً في الجمع بين الدين والدنيا والمادية والمثالية والواقع والخيال وحق الفرد وحق الجماعة ، والتقرب إلى الله من خلال الاستمتاع بالحلال وإشاعة النماء والخير في الكون. التوازن أراه كذلك في استحضار وجود الله في مختلف جنبات الكون، باعتباره سبحانه وتعالى خالق الكون بمختلف كائناته ومفرداته. الأمر الذي يرتب بالضرورة حقوقاً لتلك الكائنات جميعها: البشر والنبات والحيوان والجماد. فتلك كلها حسب النص القرآني أمم أمثالنا. تتعبد لله ولكننا لا نفقه تسبيحهم. وإذ تحترم جهود المنافحين عن حقوق الإنسان على سبيل المثال، ونلاحظ أن هناك من اتسع دائرة اهتمامهم بالحيوان وبالبيئة، وهي جهود مقدّرة لا ريب، إلا أننا نرى في الثقافة الإسلامية مبدأ ورؤية مرجعية أشمل وأوفى، تدعو إلى احترام كل مخلوقات الله ومفردات الكون. ويندرج تحت ذلك العنوان مختلف الأنشطة التي تسعى للدفاع عن تلك الكائنات. وهذه الرؤية تعتبر انتهاك حقوق تلك الكائنات عدوانا على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى. فضلاً عما سبق فبوسعنا أن نضيف أن ثقافة الوسطية تعني أموراً أخرى هي: - تعدد منابع الخير والتوازي بين مساراته سوءا كانت تلك المنابع من فئات المسلمين باختلاف مللهم ونحلهم وفرقهم، أو كانت لدى غير المسلمين. - الانفتاح على كل الساعين إلى الخير من بني الإنسان التزاماً بمبدأ التعاون على البر والتقوى، واهتداءً بالشعار القائل بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. - التجاور بين الأشياء مع تمايزها بما يحترم قاعدة الاختلاف والتنوع. - إعذار الخلق والتيسير عليهم بما لا يتصادم مع أصول الشرع وثوابته. - إدراك الأولويات وترتيب التكاليف طبقاً لأحوال كل مجتمع وبيئة. - اعتبار تغير الأحكام بتغير الأمكنة والأزمنة والأحوال بمعنى التفاعل مع البنية والطرفين الجغرافي والتاريخي. - التدرج في التبليغ والتكليف. ثالثاً: هناك وسطية شاملة أو أخرى جزئية . الشاملة تنصب على زاوية النظر للكون والخلق ومنهج التعامل على مختلف الأنشطة، أعنى بذلك التركيبة العقلية التي تتعامل مع الأشياء وتفسرها انطلاقا من المفاهيم والرؤى التي أشرنا إليها توا. أمّا الوسطية الجزئية فتتمثل في تنزيل تلك المفاهيم والرؤى على أنشطة ومجالات بعينها، مثل الفكر الديني والنشاط السياسي أو المجال الإعلامي الذي تهتم به هذه الورقة. ولأن موضوع الفكر الديني هو الساحة الأكثر أهمية بل والأكثر سخونة في الوقت الراهن فسوف نتوقف أمامه لحظة قبل أن نصل إلى مقصودنا. ذلك أن الوسطية في الفكر الديني وإن كانت لها ملامح يمكن استقاؤها مما مررنا به، إلا أن تقديرها يختلف باختلاف موقف المرء من التدين وفهمه له فهناك من يعتبر مجرد الالتزام بالفرائض والأركان تشددا وتطرفا وبعدا عن الاعتدال. وقد حدث معي أن زرت سكان جبال "الهونزا" في باكستان، وهم من أتباع الطائفة الإسماعيلية ونشرت استطلاعا عنهم في مجلة "العربي" سجلت فيه ما سمعت من ممثليهم هناك، أنهم مسلمون يعتزون بدينهم، لكني أبديت استغرابي من أنني لم أجد مسجدا واحدا في منطقتهم التي يسكنها عشرات الآلاف منهم، وبعد النشر فوجئت بخطاب استنكاري من قارئ سوري عاتبني على إيراد تلك الملاحظة ، وسأل: كيف أدعي أنني كاتب "مستنير" في حين أنتقد عدم وجود مسجد يؤدي فيه المسلون صلواتهم؟! والأمر كذلك فإننا حين نتحدث عن الوسطية في التدين فينبغي أن نتعامل معها في حدود افتراض الالتزام بالأصول والفرائض. ولا مجال للحديث في هذا المجال مع من يرى مجرد التدين نوعا من التشدد أو التطرف. ذلك لا ينفي بطبيعة الحال أن ساحة التدين تحفل بصور شتى من التطرف الذي ينحاز إلى أكثر الآراء تشددا ومشقة على الناس ، وهو أمر يمكن احتماله إذا كان ذلك اختيارا شخصيا ، ولكن الحرج يبرز إذا ما حاول الذين شددوا على أنفسهم أن يفرضوا تشددهم على الآخرين أو أن يحاكموهم باختيارهم وبالآراء التي انحازوا إليها، علما بأن ذلك التشدد يمكن أن تكون صلته أوثق بالعادات والتقاليد التي يلبسها البعض لبوس التعاليم ، ولن يعدموا نصوصاً من المأثورات أو شداحق من التاريخ يعززون بها رؤاهم. رابعاً: من المهم أن نلاحظ في الوقت ذاته أن الوسطية ليست رؤية فكرية يمكن أن تستند إلى التعاليم وتستلهم منها الرؤى والمفاهيم، لأن البيئة الثقافية والسياسية والاقتصادية التي يعيش في ظلها المرء تنعكس على موقفه، وتدفعه إمّا في اتجاه الوسطية أو نحو التطرف. ومن أسف أننا حين نتعامل مع عناوين الاعتدال والتطرف نركز في أغلب الأحوال على الأفكار والأفراد، ونتجاهل دور البيئة في استنبات تلك الأفكار، ولا مفر من الاعتراف بأن المجتمعات تمر بأطوار قد تستخلص من الناس أفضل ما فيهم، وأطوار أخرى تستخلص منهم أسوأ ما فيهم، وهذه الأجواء الأخيرة هي التربة التي تساعد على استنبات مختلف صور التطرف والإرهاب. والأمر كذلك، فبوسعنا أن نقول بأننا مهما أجهدنا أنفسنا في تعريف الوسطية ورفع شعاراتها ، والتدليل على أهميتها واستحضار الأسانيد الشرعية التي تدعو إليها وتؤيدها، فإن ذلك لن يسوِّق الوسطية أو يقنع الناس بها، طالما أن البيئة الاجتماعية والسياسية تفتقد إلى التوازن. بكلام آخر فإن الوسطية ليست موقعا فكريا منعزلا عن الواقع يسود ويتفاعل باتجاه إيجابي في كل الأحوال، وإنما العكس هو الصحيح تماما ، ذلك أن البيئة التي أشرنا إليها -قطرية كانت أم إقليمية– تؤثر في موقف الشخص أو الجماعة سلبا أو إيجابا. ثمة مقولة شائعة في الفكر السياسي ترى أن كل نظام يفرز المعارضة التي يستحقها، فالنظم الديمقراطية التي تتيح للناس حق المشاركة والمساءلة وتداول السلطة تعلم الناس التسامح والاعتدال. والنظم الاستبدادية بما تمارسه من قهر وقمع تعطي الناس دروسا يومية في الظلم وتنمي لديهم أسباب الغضب، مثلما تزرع في أوساطهم بذور العناد . لست أريد أن أبرئ سلوك الأفراد والقي بكامل المسؤولية على الظروف، لكنني أدعو إلى تفهم ذلك السلوك وأتساءل: لماذا يجنح الناس إلى التشدد في ظروف تاريخية معينة ، ويميلون إلى الاعتدال في ظروف أخرى، في نفس المجتمع وهو سؤال أردت به إثارة الانتباه إلى العلاقة بين الأفكار والتاريخ، والتنويه إلى أن الأفكار كثيرا ما تكون استجابة للظرف التاريخي وتعبيراً عن التفاعل معه. وقصة الإمام الشافعي الذي اتخذ في مصر مذهبا مغايرا لمذهبه في العراق معروفة للكافة، وملابسات ظهور مدارس أهل الرأي في المناطق الزراعية وأهل النص أو الحديث في المناطق الصحراوية شاهد آخر على علاقة البيئة بالأفكار، كما أن انطلاق دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب لإبطال البدع في الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر كانت استجابة للظرف التاريخي الذي كاد فيه انتشار البدع يؤثر على سلامة اعتقاد الناس. كما أن انطلاق حركة الإخوان المسلمين في عام 27 بعد إلغاء الخلافة الإسلامية بما يؤكد تلك العلاقة بين الفكرة واستجابتها لمتطلبات الواقع ودواعيه. خامساً: الوسطية موقف يعبر عنه الخطاب وتترجمه الممارسة، والخطاب مطلوب تبنيه في كل من مؤسسات التربية والتعليم والتوجيه والإعلام، كما أن الممارسة مطلوبة من جانب نظام الدولة والنخبة فيها، التي تقدم النموذج الذي يتربى عليه الناس ويحتذونه ويهتدون به. وإذا كنت في هذه الورقة معنيا بأمر الإعلام في حدود الخطاب فإنني أشدد على دور الأطراف الأخرى من مناهج التعليم ومنابر الوعظ والإرشاد. وأزعم أن الإعلام لن يستطيع أن يؤدي دوره في تلك الدعوة النبيلة إلا إذا تكاتفت معه الجهات المسئولة عن التربية والتعليم وتلك التي تتولى دور الوعظ والإرشاد. وهذا كله لا يتأتى إلا إذا تحولت الوسطية من مسئولية أجهزة الإعلام إلى استراتيجية للدولة، تتبناها أجهزتها ومؤسساتها المختلفة في خطابها وتتمثلها في ممارساتها. إن الإعلام وسيلة للتبشير كما أنه مرآة عاكسة للمجتمع، وأهل الصنعة يعرفون أنه يؤدي وظيفة التبشير من خلال وسائل ثلاث هي: الأخبار ،والتثقيف، والترويح، ولكي يؤدي دوره في الدعوة للوسطية فينبغي أن يلتزم بذلك النهج في تلك الدوائر الثلاث. ولأن الإعلام بتقدم فنونه وقوة تأثيره أصبح أحد العوامل بالغة الأهمية في تشكيل إدراك الناس، فغني عن البيان أنه يمكن أن يسهم في إذكاء العنف والترويج له. كما أنه يمكن أن يساعد على إشاعة التسامح والاعتدال والوسطية. وينبغي أن نلاحظ في هذا الصدد أن المجموعة التي قامت ببعض الأعمال الإرهابية في مصر كانت من ضحايا وسائل الإعلام، فعن طريق أشرطة الكاسيت اقتنع أفرادها بالفكر المتطرف المخاصم للمجتمع ، وعن طريق "الإنترنت" تعلموا صناعة المتفجرات قبل أن يقوموا بما أقدموا عليه. وإذ بات متعذرا حتى الآن على الأقل السيطرة على ذلك الجانب بمصادرة أشرطة الكاسيت أو إغلاق المواقع التي تحرض على العنف والإرهاب، فإن السؤال الذي ينبغي أن يشغلنا هو: إذا كان الإعلام قد وظفه البعض لأغراض شريرة، فكيف يمكن أن يوظفه الآخرون للأغراض النبيلة التي تسهم في البناء وليس الهدم؟ هناك مستويات للقيام بهذه المهمة ، مستوى الحوار المباشر والمستمر مع أفكار التطرف ورموزه، ومستوى الحوار غير المباشر من خلال البرامج الأخرى المختلفة، سواء كانت أعمالا درامية أو كوميدية فيما يخص التليفزيون والإذاعة. ينبغي هنا ملاحظة أن الجهد الإعلامي لا ينبغي أن يكون مقصورا على الرد على دعاوى المتطرفين، فذلك مما يدخل في باب التصدي والمواجهة التي تستهدف تطويق التطرف وعلاج آثاره، لكن هناك مسئولية أخرى بالغة الأهمية تتعلق بالوقاية وليس العلاج، وأقصد بالوقاية تحصين المجتمع والشباب بوجه أخص بالفكر المعتدل والرشيد. ولا أمل في تكرار التنبيه إلى ضرورة تكاتف سياسة التعليم والوعظ والإرشاد مع الإعلام في هذا الصدد، وضرورة توجيه اهتمام مواز إلى الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكل مناخا قد يساعد على الاعتدال أو يعوقه. سادساً: في الإطار الحرفي فإن وسطية الإعلام تقتضي إفساح المجال لعرض مختلف الرؤى والآراء والاجتهادات التي يحفل بها المجتمع. إذ حين يتبنى الإعلام وجهة نظر واحدة، أو يكون منبرا لتوجه سياسي أو فكري بذاته، إذا لم تكن منابره مملوكة لأحزاب بذاتها، فإن ذلك يفقد الوسيلة الإعلامية شرط الحيدة والنزاهة، وبذات القدر فيتعين عليها أن تتيح فرصة الحوار بين مختلف الآراء، الأمر الذي يسهم في تنوير الرأي العام وإثراء إدراك القراء، وفضلا عن أن استمرار ذلك الحوار من شأنه أن يعلم الناس كيف يتحاورون بالحجة وليس بالتراشق أو السلاح. تقتضي تلك الوسطية أيضا أن تتبنى وسائل الإعلام موقعا متوازنا في دوائر انتماء الجماهير الوطنية والعربية والإسلامية والإنسانية، فلا يغذى انتماء على حساب آخر ولا تحرض دائرة على أخرى، وإنما تتوازى تلك الدوائر على نحو يسهم في تكوين الشخصية العربية السوية. ثمة معيار آخر للوسطية يتجاوز الجوانب الحرفية البحتة ، ذلك أن التوازن المرجو يظل مطلوبا فيما يقدم من مواد للرأي العام، يتكافأ فيها ما يغذي العقل مع ما يشبع أشواق الروح والوجدان، وليس الوعظ هو الوسيلة الوحيدة لإحداث ذلك التوازن لأن فنون الإعلام التي يمكن أن تنقل تلك الرسالة لا حدود لها، وأهل الحرفة يعرفون جيدا كيف أن "الدراما" باب واسع لتشكيل الإدراك في أي اتجاه. ثمة ملحوظة أخيرة في هذا الصدد، خلاصتها أن قطاعاً لا يستهان به من الإعلام المرئي بوجه أخص تحول إلى وسيلة أسرفت كثيرا في تفكيك البنى الأخلاقية ومنظومة القيم الأخلاقية، والكل يعلم لا ريب كيف أن التليفزيون أصبح إحدى وسائل إشاعة الفاحشة بين الناس، ورسالة الفاحشة هذه غدت نمطا يطل علينا من مختلف أنحاء العالم. وهذه الرياح الضارة والمسمومة تلقي على أهل الاختصاص في العالم العربي والإسلامي بمسئولية أكبر لأنها تمثل تحديا لطاقاتهم وخبراتهم ، ذلك أن الوسيلة الأنجع لمواجهة تلك الموجة تتمثل في أمرين، أولهما تحصين الأجيال الجديدة بالمناعة الكافية التي تجعلها قادرة على الاحتفاظ بثباتها وتوازنها أمام تلك الرياح العاتية، وثانيها سعي المسئولين عن وسائل الإعلام خصوصا المعنيين بأمر إنتاج البرامج والمسلسلات التليفزيونية إلى تحسين إنتاجهم وجعله أكثر كفاءة بحيث ينجذب إليه المشاهد العربي ولا ينصرف عنه إلى القنوات الأخرى. سابعاً: ثمة سؤال أخير ظل يشغلني طول الوقت الذي أنفقته في كتابة هذه الورقة ولم أجد مفراً من إلقائه في ختامها، هو أن الوسطية قيمة عظمى لا ريب وبغيرها تختل أمور كثيرة في حياتنا كأفراد ومجتمعات، الأمر الذي يجعلها ضرورة يتعين الاعتصام بها وعدم التفريط فيها، لكننا إذا تساءلنا عن واجب الوقت وشعاره، فهل تكون الوسطية وحدها هي الرد؟ حتى أشرح سؤالي أقول أن الأمة العربية تتعرض لهجمة قوية في الوقت الراهن، تستهدف كيانها كله، ممثلا في انتمائها العربي والإسلامي بوجه خاص وتتوصل إلى ذلك بالاحتلال حينا وبالتفكيك الذي يمهد للاقتلاع حينا والإدماج في مشروع شرق الأوسطية، وفي غمار معركة كهذه هل نكتفي بالاعتصام بالوسطية فحسب، أم نقبض عليها بيد ونرفع باليد الأخرى شعارات المقاومة واستنفار طاقات الأمة لصد الغارات التي تستهدفها. السؤال أضعه بين أيدي الجميع للتفكير فيه والإجابة عليه لأنه يمثل اختبارا لفكرة الوسطية ودورها في مواجهة أهم تحديات المرحلة التي تمر بها الأمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق