الجديد القديم في الوثائق المصرية بشأن السودان
نشر في الشرق الأوسط عدد اليوم 9 أبريل 2007م
الامام الصادق المهدي
في عام 1953 نشرت الحكومة المصرية الوثائق المتعلقة بمفاوضات مصرية بريطانية بشأن السودان للفترة من 1841 الى 1953، وأقدم د. عادل أحمد إبراهيم على نشره هذا العام، طبعته مكتبة الشريف الأكاديمية وحققته المؤرخة السودانية الشهيرة د. فدوى عبد الرحمن علي طه، إنه جهد سوداني مقدر في نشر وثائق مصرية قيمة.الوثائق تقص المراحل التسع، التي مرت بها العلاقات المصرية البريطانية في أمر السودان وهي: > مرحلة الغزو 1899 وفيها مصر نفسها خاضعة لبريطانيا. وأملت عليها اتفاقية 1899، التي أسست حكما ثنائيا على السودان، ثنائيا اسما وبريطانيا فعلا.> الحركة الوطنية في مصر خاضت ثورة 1919، وأثمر الكفاح السياسي دستور 1923 المؤسس لاستقلال مصر وللديمقراطية فيها. في هذه المرحلة اشتد التناقض بين مصر وبريطانيا بشأن السودان، واستغلت بريطانيا حادث اغتيال حاكم السودان العام «استاك» في القاهرة، لتفرض على مصر تصفية وجودها السياسي والعسكري في السودان.> المرحلة الثالثة شهدت حدة النزاعات الأوروبية التي سبقت الحرب الأطلسية الثانية (1939-1945) وفي هذه المرحلة زادت أهمية مصر لمصالح الإمبراطورية البريطانية، فانطلقت المحادثات بين بريطانيا ومصر حول الدفاع والسودان. وكانت النتيجة معاهدة 1936، التي أعادت الوجود المصري في السودان، كما كان قبل عام 1924.أثناء الحرب نفسها طغت اعتبارات القتال، وفرض على مصر التحالف مع بريطانيا، وسخرت إمكاناتها لأغراض الحلفاء الحربية، ولم تجر مفاوضات بشأن السودان.> بعد الحرب بدأ التفاوض، ولأسباب متعلقة بموقف مصر أثناء الحرب ومستجدات الدفاع مالت بريطانيا لإرضاء مصر، فأدى ذلك لإبرام بروتوكول صدقي بيفن في عام 1946. هذا البروتوكول نص على وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، على أن تكون أهدافها تحقيق الرفاهية للسودانيين وتنمية مصالحهم وإعدادهم للحكم الذاتي.> وبعد معاهدة 1936 مباشرة، تم في السودان تكوين مؤتمر الخريجين العام 1938. هذا المؤتمر عبر عن مولد الشعور الوطني الحديث في السودان، الذي جسدته مذكرة المؤتمر للحاكم العام 1942، وفيها طالبوا بحق تقرير المصير، ثم تلا ذلك تكوين الأحزاب السياسية 1945 ونتيجة لهذه التطورات برمج الحكم البريطاني في السودان لقيام مجلس استشاري، ثم جمعية تشريعية. هذه لم ترض عنها مصر وانتقدتها واعتبرتها خطرا على مصالحها، لذلك قدمت مصر شكوى لمجلس الأمن في 1947 مطالبة بإنهاء الوضع الإداري القائم في السودان. لكن مجلس الأمن، وفي مناخ إعلان الأطلنطي، الذي أعلن حق تقرير المصير للشعوب، لم يستجب للطلب المصري وربط مستقبل السودان بمشيئة الشعب السوداني. > دواعي الحرب الباردة، والضغط الأمريكي على بريطانيا للاتفاق مع مصر، أدى لاستئناف المفاوضات المصرية البريطانية بشأن الدفاع وبشأن السودان. محادثات استمرت حتى 1951 من دون تقدم.> حكومة الوفد المنتخبة 1951، ضاقت ذرعا بالموقف البريطاني، لذلك قررت إلغاء معاهدة 1936 وتصفية الحكم الثنائي في السودان وإصدار مراسيم لحكم السودان تحت التاج المصري. هذه الإجراءات واجهت رفضا رسميا وسياسيا في السودان.> الثورة المصرية في عام 1952 اتخذت نهجا مختلفا في التعامل مع الملف السوداني، واصلت تفاوضا مع حزب الأمة، بدأه نجيب الهلالي، ولكنه وصل لطريق مسدود حول قضية السيادة. وفي 23/10/1952 أبرمت الحكومة المصرية اتفاقا مع حزب الأمة، ثم في 1/11/1952 اتفاقا مع الأحزاب الاتحادية، ثم في نهاية العام اتفاقا مع فصائل جنوبية، ثم عززت الحكومة المصرية موقفها بإبرام اتفاق مع كافة الأحزاب السودانية في 10/1/1953، في هذه المرحلة أثمرت المفاوضات المصرية البريطانية، لأنها خلت من عقبة الإصرار المصري على السيادة على السودان، ولأن المفاوض المصري تفوق على البريطاني، لأنه جرده من كرت الاحتجاج برأي الشعب السوداني. هذه الوثائق تقول ان البريطانيين فرضوا رؤاهم في السودان على المصريين، ولم يبدوا بعض المرونة إلا في 1936، و1946، 1952، لأسباب متعلقة بالدفاع عن الشرق الأوسط وضرورة الاتفاق مع مصر. الوثائق تدل على مدى ظلم بريطانيا لمصر. ولكن المفاوض المصري ظلم نفسه لأنه اعتبر القضية محصورة بينه وبين بريطانيا، من دون اعتبار للخصوصية السودانية ولرأي الشعب السوداني. هذا الخلل مكن بريطانيا من أن تواصل ظلمها لمصر وأن تتخندق وراء الحديث عن المصالح السودانية، بصورة أجهضت كل المفاوضات قبل عام 1952. لا شك في أن السياسة البريطانية نحو مصر والسودان استعمارية. الإدارة البريطانية في السودان بالمقارنة بأداء الحكم التركي/ المصري السابق في السودان، وبالمقارنة بالحكم البريطاني نفسه في بقية المستعمرات، نجحت في بناء دولة حديثة في السودان، وتعليم حديث، وخدمة مدنية مؤهلة، وقوات نظامية منضبطة، واقتصاد مجد. لكن الاستعمار البريطاني ارتكب خطأين تاريخيين في السودان.الأول: إدارة التباين الثقافي والاثني في السودان بصورة عمقت الفواصل وأعطتها صفات جديدة فبذرت بذرة الحرب الأهلية.الثاني: دق إسفين في العلاقات المصرية السودانية، وتعزيز المخاوف المصرية عن خطر آت من السودان.صحيح أن مصر وجزءا من شمال السودان كانا دولة واحدة في مرحلة تاريخية معلومة، حكمها فراعنة مصريون وآخرون سودانيون، مثل بعنخي وترهاقا، ولكن هذه الفترة أعقبتها فترات أطول ازدهرت فيها حضارات سودانية أهمها:> الحضارة الكوشية وعاصمتها كرمة.> الحضارة المروية وعاصمتها نبتة ثم مروي (1400-2400ق م).> نوباتيا والمقرة وعلوة وهي ممالك نوبية سودانية مسيحية.> الممالك الإسلامية العربية الأفريقية السودانية الخمس: الفور ـ الفونج ـ تقلي ـ المسبعات ـ الكنوز.هذه الحضارات أسست لخصوصية سودانية استمرت آلاف السنين وقاومت كل الغزاة، الذين غزوا مصر أن يخضعوها لهم.هذه الخصوصية السودانية قصمها غزو 1821. ولكن المهدية طوت ذلك الغزو واستأنفت الخصوصية السودانية بأبعاد جديدة ومرجعية إسلامية، في تسلسل جعل أمدرمان وريثة كرمة، ومروي، والمقرة، وعلوة، والممالك الإسلامية. المفاوض المصري كما تظهر الوثائق لم يعر هذه الخصوصية أية أهمية وجعل مرجعيته 1821.أما الدور السوداني في ما حدث فقد سطعت عليه أضواء جديدة، الأستاذ حسن أحمد إبراهيم، المؤرخ السوداني المدقق أظهر في كتابه عن الفترة كيف أن الإمام عبد الرحمن ومن بعده حزب الأمة ناور ليحقق مصلحة إستراتيجية وطنية. والوثائق تقول كيف ان حزب الأمة والحركة الاستقلالية كانا الحاضر والغائب في المفاوضات المصرية البريطانية، وأنهما هما اللذان أجهضا بروتوكول صدقي/ بيفن، كما أجهضا الاحتكام لمجلس الأمن فقررا أن مصير البلاد بيد أهلها، وأنهما أجهضا التدابير البريطانية في السودان، عندما مررا قرار الحكم الذاتي في الجمعية التشريعية، رغم أنف الإدارة البريطانية، فصار القرار أساسا لدستور المرحلة الانتقالية، كما أنهما هما اللذان تلقفا الموقف المصري بعد الثورة ودفعاه نحو الاعتراف بأن مصير السودان للسودانيين.يحمد للثورة المصرية أن قيادتها تنبهت للخصوصية السودانية والمطلب الشعبي وتجاوبت معه، فاستطاعت أن تهزم المفاوض البريطاني في ميدانه. وقد شهد الإمام عبد الرحمن بأن الحركة الاتحادية بموقفها المتشدد ساعدت العناصر الوطنية في الدفع بمطالبها داخل الجمعية التشريعية.وبعد جلاء البريطانيين ساقت الخصوصية السودانية الحكومة الاتحادية نحو مطلب الاستقلال، وجاء ظرف تاريخي فجر الموقف. وروى محسن محمد، الكاتب المصري أن الرئيس الأزهري قال للرئيس عبد الناصر، إن إبعاد الرئيس محمد نجيب كان له أثره في تحولهم نحو الاستقلال. معنى صاغه الشاعر أحمد محمد صالح: إذا كان مثلك يا نجيب فما هو الضمان بأن لا نهون ونهضم؟وقال نجيب نفسه في مذكراته: كان قرار تنحيتي، في نفس الوقت، هو قرار الانفصال. أما أنا فأقول إن عدم اعتبار حكومة الثورة المصرية للخصوصية السودانية في التعامل مع حكومة الأزهري المنتخبة هو سبب القطيعة.الدرس المستفاد أن هنالك سودانا وارث محملات حضارية متعدد الثقافات والجهويات تعددا يلزمه بنهج حضاري واسع لاستيعاب هذا التنوع في وحدة توازن وعدالة. هذا السودان تربطه بمصر في أفريقيا، وفي حوض النيل، وفي حوض البحر الأحمر، وفي فضاءات إسلامية وعربية وأفريقية روابط مصيرية يرجى أن يكتشف الشعبان علاقة ناجعة للتعبير عنها.تلك العلاقة ينبغي أن تنطلق من عوامل جيوسياسية وتطلعات مصالح مشتركة مستقبلية متحررة تماما من حملة الباشا في 1821.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق