الأربعاء، 29 يوليو 2009

رؤي حول الوسطية الاسلامية
بقلم الزبير محمد علي
الغوص في بحر الوسطية يكلف المجتهد والكاتب وقتا طويلا. ربما يرجع ذلك الي تعقيد مفهوم الوسطية خصوصا اذا اردنا اختباره علي ارض الواقع في مجالات الحياة المختلفة.
لذلك حرصت عند كتابة هذه المقالة ان اطلع علي مفهوم الوسطية عند عدد من المفكرين والمفسرين والكتاب وامضيت في هذا السبيل وقتا لم امضه عند الكتابة في اية موضوع اخر.
فالوسطية واسعة البطن، ممتدة الاطراف، متعددة الطرح في طاولة الشارع الاسلامي، وفي حلبة الفكر الاسلامي المعاصر.
ان التيارات الاسلامية علي اختلاف اشكالها ومسمياتها تري ان طرحها ملتزم بالوسطية، ويرجع ذلك الي ثمة نص قراني يصف الامة الاسلامية بانها امة "وسط" قال تعالي ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ولكن هل هذا يفيد بأن الوسطية ثوبا فضفاضا يتلفح به القاصي والداني؟
ان اماطة اللثام عن هذا السؤال يستدعي تواضع التيارات الاسلامية علي تعريف محدد لمفهوم الوسطية في الاسلام ؛حتي لا تكون النتيجة انقسام الوسطية الي "وسطيات" كما اشار الاستاذ عبدالرحمن الحاج بقوله:(ان الوسطية لغويا هي وسط بين امرين ، وهي لم تغادر فضاء الدلالة اللغوية، لذلك حدد كل شخص مسافة وسطه حسب مقاييسه الخاصة واسقط عليها مفهومه عن المصطلح ؛ كانت النتيجة انقسام الوسطية الي "وسطيات" مثل "وسطية مستنيرة" واخري "مظلمة"). وتعليقي ان هذا الراي ينطوي علي جانب كبير من الصواب، ذلك لان الاتساع في معاني المصطلحات والمفاهيم استشري بصورة كبيرة في ميدان الفكر المعاصر. واصبح لا ينطبق علي الوسطية وحدها ؛ بل يتسع ليشمل الاشتراكية ؛ والعلمانية، والديمقراطية .
ويؤكد ما ذهبنا اليه ان الباحث لا يجد تعريفا واحدا للاطروحات انفة الذكر- مثلا - هناك اشتراكية "علمية" واخري" ديمقراطية" واذا تاملنا فيهما لوجدنا اختلافا جوهريا قد يصل الي درجة التناقض بينهما. وليس في الامر عجب ان تقع الوسطية في هذا الشرك؛ بالرغم من عدم وجود تناقض بين حقيقة الاسلام والوسطية.
ان الذي يسبح في الحوض النبوي يلمس تلك الحقيقة . عن جابر بن عبد الله قال:كنا عند رسول الله "ص" فخط خطا وخط خطين عن يمينه وخطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الاوسط وقال :"هذا سبيل الله" ثم تلا هذه الاية (ان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) وربما يسال سائل سؤالا مفاده : اذا كانت حقيقة الاسلام هي الوسطية، فما الذي جعل التيارات الاسلامية تختلف حولها ؟.
اظن ان الاسباب التي ادت الي انقسام المسلمين الي فرق، واحزاب، ومدارس، وطوائف رغم وجود كتاب واحد ورسول واحد وقبلة واحدة هي التي ادت الي اختلاف التيارات الاسلامية حول الصياغة التطبيقية لمنهج الوسطية ،وان كانت لا تختلف حول المبدأ العام واشير هنا الي راي د/ سليمان العودة حيث يري ان من الافضل ان نفرق بين ثلاث مستويات: الاول: الايمان بمبدأ " الوسطية" باعتباره قاعدة شرعية ضرورية.
الثاني: فهم القواعد الشرعية المتعلقة بهذه المبادئ الثبوتية
الثالث: الفهم الخاص المبني علي الاجتهاد في احكام معينة في تقديري ان المستوي الاول المذكور انفا لاخلاف حوله فقد دلت عليه قطعيات الوحي، واكدته السنة النبوية الشريفة.
قال نبي الرحمة "ص"(ان أحب الدين الى الله الحنيفية السمحة) وذكر النبى"ص" فى مقام أخر قوله (ان الرفق لا يكون فى شي الا زانه ولا ينزع من شي الا شانه ).
أما المستويين الثانى والثالث فالاختلاف فيهما وارد ؛ ذلك لان التباين فى وجهات النظر وتقدير الأشياء أمر طبيعى ، ويستحيل أن يتساوى الناس فى ملكاتهم وقدراتهم العقلية ؛ ولكن الممكن هو أن تتواضع التيارات الاسلامية على مقرن يمثل اتفاق حد أدنى حول مفهوم "الوسطية" في الاسلام ولكن كيف نحقق هذا الهدف ؟
ان المؤتمرات يمكن ان تحل هذا اللغز، لاجرم أن الاهتمام بالنقاش حول الوسطية أضحى فى تنامى مستمر. ففي عام 2005عقدت وزارة الشئون الاسلامية والاوقاف بالكويت بالتعاون مع الهيئة الخيرية الاسلامية العالمية مؤتمرا بعنوان "الوسطية منهج حياة".
وفي لندن عام 2006 اقيم مؤتمرين حول الوسطية الاول بعنوان "نحن والاخر- الحوار مع الاديان الاخري" والثاني عن "توضيح صورة الاسلام لدي الغرب " وفي ذات العام وبالعنوان عينه اقيم مؤتمرا عن الوسطية في واشنطن.
ان هذه المؤتمرات يجب ان توجه نحو احداث حوار يعمل علي وضع معايير واسس محددة للوسطية باتفاق الجميع ، بحيث ان من يخرج عليها يعتبر خارج نطاق المنهج الوسطي. واعتقد ان اغفال هذا الجانب سيفتح بابا واسعا امام المرجفين بالشماتة علي الفكر الاسلامي بعبارات علي شاكلة "الوسطية مفهوم هلامي" كما شمت اخرون قبلهم علي الصحوة الاسلامية ووصفوها "بالفجر الكاذب".
فهل نحن مستعدون لقفل الباب امام هذه الشبهات التي تحيط بالوسطية بالتوافق علي تعريف محدد لها؟
ان هذه المقالة لا تعني بالاجابة علي هذا السؤال ؛ فهذا يتوقف علي استعدادات المفكرين ، والعلماء، والمدارس الاسلامية حول هذا التوافق المنشود ؛ وهو امر ستكشف عنه مقبل الايام.
رؤي المفسرين حول الوسطية:
لم تجد الوسطية مكانها في بطون التفاسير الاسلامية القديمة بصورة واضحة ، سوي بعض الاشارات في تفسير الاية الكريمة (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس) قال الامام الطبري " الوسط بمعني الجزء الذي هو بين طرفين مثل وسط الدار" مرددا قول زهير : هم وسط ترضي الانام بحكمهم اذا نزلت احدي الليالي بمعظم وزاد بقوله : " انما وصفهم بانهم وسط لتوسطهم في الدين ، فلاهم اهل غلو فيه ، غلو النصاري الذين غلو بالترهب ،ولاهم اهل تقصير فيه ، تقصير اليهود الذين بدلوا كلام الله".
اما بن كثير فيري ان الوسطية تعني " الخيار والاجود كما يقال قريش اوسط العرب نسبا اي خيرها".
ان هذه الاشارات التي اوردناها عن المفسرين لاتزيد عن بضعة اسطر؛ ولكن يوجد في العصر الحديث من تحدث عن الوسطية بصورة اكثر وضوحا كسيد قطب في تفسيره "في ظلال القران" حيث اعطي للوسطية بعدا جديدا مقارنة بالتفاسير القديمة واليك خلاصة قوله: "امة وسطا في التنسيق والتنظيم لاتدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر ولاتدعها كذلك للتشريع والتاديب ؛ وانما تزاوج بين هذه وتلك.
امة وسطا في الزمان تزواج بين تراثها الروحي منذ عهود الرسالات ورصيدها العقلي في النماء بها علي الصراط السوي بين هذا وذاك.
امة وسطا في التفكير والشعور لا تجمد علي ما عملت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ، ولاتقلد تقليد القردة المضحك ؛ انما تتمسك بما لديها من تصورات ومناهج واصول ؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجربة وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن اني وجدها فهو احق الناس بها"
ان اعطاء سيد قطب بعدا جديدا للوسطية في كتب التفاسير لا يعني تفوقه علي المفسرين الاوائل ، بل يبين حقيقة مفادها ان هذه الاراء نبعت من العصر الذي عاش فيه ، وما صاحب ذلك العصر من اسئلة الحت علي الفكر الاسلامي حول ماهية قبول او رفض الافكار الاتية من بيئات غير اسلامية ؛ وهو الذى يفسر قلة تناول مفهوم الوسطية من زوايا مختلفة في بطون تفاسير الاقدمين( نتحدث هنا عن آراء سيد قطب الاولي ، ولكنه بما عاناه في تجربة القهر المرة قد نقض غزله بيده وصار أب الغلو الاسلامي بكتاباته اللاحقة ، فالقهر يولد العنف والتطرف).
. رؤية الفكر الاسلامي الحديث حول الوسطية:
واذا كنا قد استرسلنا في الحديث عن مفهوم الوسطية عند الاقدمين ، فواجب علينا ان نسمع رؤية الفكر الاسلامي الحديث عنها ؛ فماذا قال؟
هناك مفكرين وكتاب اشاروا الي اهمية الوسطية كمنهج وقيمة مهمة في العصر الحديث وفي الثقافة الاسلامية.
ابرز هؤلاء المفكرين مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الافكار في العالم الاسلامي" والاستاذ فهمي هويدي في كتابه "الاعلام وثقافة الوسط" وتحدث عنها القرضاوي في كتاب صدر له مؤخرا بعنوان "كلمات في الوسطية ومعالمها" واشار الي اهميتها ايضا من المفكرين العرب د/ زكي نجيب محمود في كتاب "الشرق الفنان".
واستصحب معي في هذا السفر مقال الامام الصادق المهدي "يسئلونك عن الوسطية" ومقال اخر لمحمد الغزالي؛ فماذا قال هؤلاء عن الوسطية ؟
فهمي هويدى : يري هويدي ان الوسطية اذا جاز لنا ان نعرفها في ضوء المعالجات المتعددة لقلنا انها "موقف يتسم بالتوازن في التفكير والنظر يقبض علي الاصول ويقبل الاختلاف في الفروع" ويعرف هويدي التوازن بانه ليس نقطة وسط بين الخير والشر؛ ولكنه انحياز كلي الي ما هو خير وحق مع الاعتراف بوجود الضد لكل منهما .
ويري ان هذا الاعتراف هو من دلائل الوقوف علي الارض ورؤية المجتمع الانساني كما هو بما فيه من شر وقبح وظلم ، لان قيم الخير والحق والجمال لاتدرك الا من خلال اضدادها. ويري التوازن ايضا في الجمع بين الدين والدنيا، والمادية والمثالية ، والواقع والخيال ،وحق الفرد وحق الجماعة.
ويتوسع هويدي ليضيق امورا اخري عن الوسطية هي:
تعدد منابر الخير والتوازي بين مساراته سواء كانت تلك المنابع من فئات المسلمين علي اختلاف مللهم ونحلهم وفرقهم ، او كانت لدي غير المسلمين.
الانفتاح علي كل الساعين الي الخير من بني الانسان التزاما بمبدا التعاون علي البر والتقوي. اعذار الخلق والتيسير عليهم بما لايتصادم مع اصول الشرع وثوابته.
ادراك الاولويات وترتيب التكاليف طبقا لاحوال كل مجتمع وبيئة.
اعتبار تغير الاحكام بتغير الامكنة والازمنة والاحوال بمعني التفاعل مع الظرفين الجغرافي والتاريخي.
التدرج في التبليغ والتكليف
الشيخ محمد الغزالي : يري الغزالي ان الوسطية تمثل توازنا بين الفقه والتصوف وزاد بقوله "رايت اناسا متبحرين في المنقول والمعقول بهم فقه واسع ، ومحفوظات كثيرة ، لكن قلوبهم يشينها جفاف بالغ تولي احدهم القضاء ، وقدمت اليه امراة متهمة بالزني ، فما زال يستدرجها ويمكر بها حتي اعترفت له ، وحكم برجمها لانها متزوجة، مع ان النبي "ص" كان يرشد احد الزناة للتراجع عن قراره ، والتحايل عليه لينصرف امنا.
وهبة الزحيلي : " ليس معني الوسطية الاخذ بانصاف الحلول ، وانما هي وصف لاحكام الاسلام علي النحو الذي شرعه الله عز وجل دون تغيير او تعديل ، فهي احكام سهلة يسيرة لافراط فيها ولا تفريط "
الامام الصادق المهدي: " يعرف المهدي الوسطية بانها نسيج الاسلام ومنهجه الوسط بين الافراط والتفريط ويضيف – قائلا ـــ ان عقائد البشر في الغيبيات ــ مثلاــ تقوم في حد منها على تعددية الالهة ، وفي الحد الاخر تقوم علي وحدة الوجود. الاسلام يقوم علي الاله الواحد والكون اي ثنائية الوجود .
ويري المهدي ان الاسلام وسط بين اللاهوتيين الذين يعتقدون ان الانسان مجرد متلق وبين الناسوتيين الذين يرون ان الانسان مؤلف كل شي ، فيجمع بينهما في توفيق لطيف بين الفردانية والجماعية .
ويطرح المهدي في ذات المقال رؤيته في تسع قضايا مهمة من خلال منظوره للوسطية الاسلامية .
وسنكتفي هنا بذكر القضايا التسع دون تفصيل ؛ تلك القضايا هي: التعامل مع الوافد من الماضي التعامل مع الوافد من الخارج اختلافات اهل القبلة الموقف من الاصلاح السياسي الموقف من الاصلاح الاقتصادي العلمانية العلاقة مع الاخر الملي والدولي الارهاب العولمة ان هذا الثراء الفكري الوسطي الرائع يمثل لوحة زاهية للفكر الاسلامي الحديث ؛ لانه يحل المعادلة الصعبة بين الاصل والعصر ، بما اكتشف من قصور العصر ورحابة الإسلام لكل عصر. ولانه يفك الشفرة بين النقل والعقل بما علم من قصور العقل واستيعاب النقل لكل عقل.
انه حرى بنا بعد هذه السياحة ان نؤكد مقولة احد المحدثين؛ تلك المقولة هى : " ان المسلمين اليوم اكثر اعتزازا بالملة واكبر ثقة في انفسهم لانهم تخلصوا ولله الحمد من مركب النقص امام الحضارات الوافدة" واختم بخلاصة مختصرة وهي عبارة عن سؤال نترك اجابته للمهتمين بشان الفكر الاسلامي : هل نحن مستعدون لا نزال هذه الافكار المشرقة علي الصعيد الشعبي ؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق